وليُّ الله خليفته على أرضه، وحجّتهُ على خلقه، وإمام زمانه، فلا تخلو الأرضُ من حجّة لله، وولي له من يوم أن أهبط الله آدم إلى الأرض، فكان آدمُ أوّل خليفة لله على الأرض، وكان نبيّاً، فهو حجّة الله ووليّه، وهذا لطفٌ من الله سبحانه، إذ سبقت هدايتُه الخلق، فكان أوّل مخلوقٍ نبيّاً موحّداً لله وداعياً إلى طاعته وعبادته سبحانه، ومعلماً ذرّيته أحكام ربّه، ولم تخلُ الأرض - من حينها - من قائمٍ لله بحجّة، فبعد آدم كان النبي شيث، واستمرت؛ فكان نوح (ع) إلى أن صارت إلى خليل الله إبراهيم (ع)، وهو العاشر من شجرة نسب نبي الله نوح (ع)، وقد بشّر الله إبراهيم (ع) [ثاني الأنبياء من أولي العزم بعد نوح(ع)] بأنه جاعله للناس إماماً، فإنّه وإن نشأ وترعرع في مجتمعٍ يعبد الأصنام، لكنه اجتباه الله للنبوة وبدأ في تحطيم أصنام النفوس قبل أصنام الحجارة، ولم يخف قرارات النمرود الذي في نهاية المطاف هدّده بحرقه بالنار، فلم يخف ولم يتراجع، وأنقذه الله سبحانه فكانت برداً وسلاماً، ومن ذريّـته اسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وخاتم الأنبياء محمد (ص)، وقد جعل الله نبيّه إبراهيم الخليل إماماً لأنه لم يسجد لصنم قط، قال تعالى " وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "، وذلك لأنّ الإمامة قيادة الأمة، وهي مهد الله، فلا تكون الإمامة لمن كان للشيطان عليه سبيلاً، عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه، رسولا وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما، فلما جمع له الأشياء قال: " إني جاعلك للناس إماما " قال: فمن عظمها في عين إبراهيم قال:" ومن ذريتي"، قال: لا ينال عهدي الظالمين " قال: لا يكون السفيه إمام التقي.
وقد أكرم الله سبحانه خليله إبراهيم (ع) أن جعل الأنبياء بعده من ذريّته وصلبه، إلى أن ختمهم بنبيّه محمد (ص)، وقد ورد عن رسول الله (ص) أنه قال: أنا دعوة أبي إبراهيم. فقلنا: يا رسول الله، وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: أوحى الله (عز وجل) إلى إبراهيم أني جاعلك للناس إماما؟ فاستخف إبراهيم الفرح، فقال: يا رب، ومن ذريتي أئمة مثلي؟ فأوحى الله (عز وجل) إليه: أن يا إبراهيم، إني لا أعطيك عهدا لا أفي لك به. قال: يا رب، ما العهد الذي لا تفي لي به؟ قال: لا أعطيك لظالم من ذريتك. قال: يا رب، ومن الظالم من ولدي الذي لا ينال عهدك؟ قال: من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماما أبدا، ولا يصح أن يكون إماما. قال إبراهيم: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيرا من الناس. قال النبي (ص): فانتهت الدعوة إلي وإلى أخي علي لم يسجد أحد منا لصنم قط، فاتخذني الله نبياً، وعلياً وصياً.
وإذا راجعنا سيرة رسول الله (ص) الدعوية؛ نجد أنّ رسول الله (ص) من حين أمره الله سبحانه " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " أخبرهم أنّ علياً هو وصيّه وخليفته، وأمرهم بطاعته، وفي كثير من المواطن أكّد على ذلك رسول الله (ص)، من حديث الدار إلى حديث المنزلة، إلى كثيرٍ من المواقف التي بيّن فيها رسول الله (ص) مكانة علي (ع) وأنه الخليفة من بعده، وكان رسول الله (ص) يلحظ عدم رضا بذلك من بعض الصحابة، وأنه يثقل عليهم ذلك، وكان كثيرٌ منهم سمع رسول الله (ص) يبشّر علياً حينما تصدّق بخاتمه وهو راكعٌ في صلاته بنزول الوحي فيه، " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ " .
وفي السنة العاشرة للهجرة نزلت آية " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ "، فأعلن رسول الله (ص) أنه قد نُعيت إليه نفسه، وأنه يريد الحج، فأرسل بذلك إلى ولاته في البلاد الإسلامية، ورغّب المسلمين بالحج معه، ليكون لهم شرف الحج مع رسول الله (ص)، وكان الإمام علي (ع) في اليمن، فوافى رسول الله (ص) ليحج معه، حاول بعض من حضر أن ينال من الإمام علي (ع)، فقال لهم رسول الله (ص): وماذا تريدون من علي؟ عليٌ منّي وأنا منه . وأخرج الإمام أحمد وغيره عن بريدة قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله تنقصته فرأيت وجه رسول الله يتغير فقال: يا بريدة ألست أولى يالمؤمنين من أنفسهم ؟ قلت: بلي يا رسول الله قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه .
بعد أن أتم رسول الله (ص) حجّته المعروفة بحجة الوداع؛ وفي طريق عودته والمسلمون إلى بلادهم، وصل رسول الله (ص) إلى أرض غدير خم، وأمر من تقدمه من المسلمين أن يرجعوا، وانتظر بقية الحجيج، وصلى بهم صلاة الظهر، يقول المقدّس الشيخ عبد الحسين الأميني في كتابه [الغدير في الكتاب والسنة والأدب]: فلما انصرف رسول الله (ص) من صلاته قام خطيباً وسط القوم على أقتاب الإبل وأسمع الجميع رافعاً صوته: الحمد لله ونستعينه ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضل، ولا مضل لمن هدى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: أيها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر الذي قبله، وإني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيرا. قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق، وناره حق، وأن الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: اللهم اشهد، ثم قال: أيها الناس ألا تسمعون؟ قالوا: نعم. ثم ساد الجو صمت عميق، ولم يسمع فيه سوى أزيز الرياح... قال رسول الله (ص): "... فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين ".فنادى مناد: وما الثقلان، يا رسول الله؟ قال: الثقل الأكبر كتاب الله طرف بيد الله عز وجل، وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فسألت ذلك لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا. ثم أخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض إباطهما، وعرفه القوم أجمعون، فقال: أيها الناس: من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه " " يقولها ثلاث مرات "، وفي لفظ الإمام أحمد إمام الحنابلة: " أربع مرات ". ثم قال: " اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ".ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي... الآية. فقال رسول الله (ص):" الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي ".
ثم طفق القوم يهنّئون أمير المؤمنين (ع)، وممّن هنّأه في مقدّمة الصحابة الشيخان [أبو بكر وعمر] بقول: بخٍ بخٍ يابن أبي طالب؛ أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة . وقال ابن عبّاس: وجبت والله في أعناق القوم . واستأذن حسّان بن ثابت رسول الله (ص) في أن يقول في علي أبياتاً، فقال له رسول الله (ص): قم على بركة الله. فأنشد حسان:
يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بـخم وأسمع بـالنبي مناديا
وقد جاءه جبريل عن أمر ربه *** بأنك معصوم فلا تك وانيا
وبلغهم ما أنزل الله ربهم *** إليك ولا تخش هناك الأعاديا
فقام به إذ ذاك رافع كفه *** بكف علي معلن الصوت عاليا
فقال فمن موالاكم ووليكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا *** ولن تجدن فينا لك اليوم عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني *** رضيتك من بعدي إمامًا وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه *** فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه *** وكن للذي عادى عليًّا معاديا
ولم يتفرّق المسلمون حتى نزل الوحي بقوله تعالى " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ".
الذين اجتمعوا في غدير خم - على أقل الروايات - كانوا عشرة آلاف حاج، وإن ذكر البعض أنهم كانوا اثنا عشر ألفاً، وآخرون قالوا سيعة عشر ألفاً، ومنهم من أوصل العدد إلى سبعين ألفاً، والحديث في نصّه ورد في المصادر الشيعية والسنية، وخاصة فقرة " من كنت مولاه؛ فهذا علي مولاه " متواترة، وتختص واقعة الغدير من بين الوقائع والأحداث الإسلامية بكثرة رواتها وتوافق المسلمين على أصل وقوعها، رواها أهل بيت النبوة (ع)، والصحابة نقلوا الحديث بلا واسطة، وأحصى بعضهم رواتها من التابعين يثلاثة وثمانين تابعاً، منهم الأصبغ بن نباتة وعمر بن عبد العزيز، وبعد التابعين من علماء السنة، بلغ عددهم [من القرن الثاني حتى القرن الرابع عشر] ثلاثماية وستون عالماً، من أبرزهم الشافعي وأحمد بن حنبل والنسائي وابن الغزالي وأحمد بن عبد ربه، وغيرهم الكثير ممن وصفوا حديث الغدير بالصحيح، وبعضهم وصفه بالحسن .
وقد روى علماء الشيعة في كتب الحديث والتفسير عدداً لا يُستهان به من علماء السنة أنه لما بلغ رسول الله (ص) غدير خم ما بلّغ، وشاع ذلك بين البلاد أتى الحارث بن النعمان الفهري وقال: يا محمد؟ أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وبالصلاة والصوم والحج والزكاة فقبلنا منك ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه. فهذا شئ منك أم من الله؟ فقال رسول الله: والذي لا إله إلا هو أن هذا من الله. فولى جابر يريد راحلته وهو يقول: اللهم؟ إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله وأنزل الله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع.
وصار يوم الثامن عشر من ذي الحجة يوم عيد يحتفل به المسلمون، وصار ليوم الغدير أهمية عظيمة عند الله ورسوله وأهل البيت وعند كثيرٍ من المسلمين، وصار يوم الغدير مناسبة تثبت بعض الأحداث اللاحقة، مثلاً: ابن خلكان يقول عن يوم بيعة الخليفة العباسي المستعلي ابن المنتصر: بويع في يوم غدير خم وهو الثامن عشر من ذي الحجة سنة 487هـ، وينقل الخطيب البغدادي عن أبي هريرة: من صام يوم ثمانية عشر خلت من ذي الحجة؛ كتب الله له صيام ستين شهراً، وهو يوم غدير خم لمّا أخذ النبي (ص) بيد علي بن أبي طالب . ويقول الثعالبي: وكانت ليلة الغدير من الليالي المعروفة عند المسلمين .
إنّ واقعة الغدير لا يمكن إنكارها، ولذا عمد الكثير من علماء السوء ووعاظ السلاطين الذين حذّر منهم رسول الله (ص) بقوله: سوف تكثر الكذابة علي . وبرعاية من معاوية بن أبي سفيان، الذي أغراهم بوضع الأحاديث، وأغدق عليهم من الأموال، فحرّفوا حديث الغدير، وبدّلوا سنّتي مكان عترتي وأهل بيتي، وبعض من لم يمكنه تغيير اللفظ لتواتره؛ عمل على التصرّف بالمعنى، فقالوا أنّ النبي (ص) يدعو الناس لحب علي فحسب، لأنّ من معاني كلمة الولي هو المحب، متجاهلين أنّ رسول الله (ص) جعل ولاية علي كولايته بقوله: من كنت مولاه فهذا علي مولاه . بعد أن كان قد أشهد المسلمين على أنه أولى بهم من أنفسهم، فكذلك علي بن أبي طالب أولى بهم من أنفسهم، وهل يُعقل أن يؤخّر رسول الله (ص) المسلمين ويجمعهم تحت حر الظهيرة فقط ليقول لهم: أحبوا علياً؟
فولاية علي (ع) هي ولاية لرسول الله (ص)، فهو إمام زمانه وحجّة الله في أرضه، وهو أوّل الخلفاء والأئمة الإثني عشر الذين حدّث عنهم رسول الله (ص) نقلاً متواتراً من علماء الشيعة وكثيرٍ من علماء السنة المحققين المنصفين، لأنه لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحجةٍ؛ إما ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مستوراً . فهم الأئمة بعد النبي (ص) آمن من آمن وأنكر من أنكر، كما أكد ذلك رسول الله (ص) في حق الحسنين (ع): ابناي هذان إمامن قاما أو قعدا.
مبارك للأمة الإسلامية بعيد الله الأكبر عيد الغدير الأغر، ونسأله سبحانه أن يثبتنا على الولاية وأن يعجل الفرج لبقية الله الأعظم إمام زماننا (عج) ليملأها قسطاً وعدلاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق