أبو مسلم الخراساني - قراءة جديدة في نسبه وظروف تصفيته - مركز الأمة الواحدة
أبو مسلم الخراساني - قراءة جديدة في نسبه وظروف تصفيته

أبو مسلم الخراساني - قراءة جديدة في نسبه وظروف تصفيته

شارك المقال

أ.د. محمد حسين علي السويطي/ كلية التربية للعلوم الانسانية/ واسط
الباحث الشيخ عادل خلف شهواز
المقدمة
حظي تاريخ العباسيين بعناية كبيرة من المؤرخين والباحثين، وطُرحت بخصوصه دراسات كثيرة، الا أن بعض جوانبه ما زالت بحاجة ماسة الى تدقيق وتمحيص، لأن ما كتبه المؤرخون الأوائل عنهم، كان انعكاساً لما تم الترويج له من قبلهم، ولاسيما ان الحكام العباسيين استعملوا الترغيب والترهيب مع العلماء والمؤرخين في سبيل الترويج لمزاعمهم حول أحقيتهم بالخلافة بهدف تثبيت شرعية حكمهم، فضلاً عن بعض هؤلاء المؤرخين كانوا نقلة للروايات فقط من دون ان يجتهدوا في التحقيق فيها، واقتفى أثرهم الكثير من الباحثين في ذكر هذه الروايات وتوظيفها كما هي، فكان نتيجة ذلك تشابه النتائج خلافاً للواقع والحقيقة.
ومن الجوانب التاريخية للعباسيين التي بها حاجة الى تدقيق وتحقيق نسب أبو مسلم الخراساني وظروف تصفيته من قبل أبي جعفر المنصور في سنة (137هـ)، اذ تم الترويج من قبل السفاح وأخيه المنصور لمزاعم حول الشكوك في نسب هذا الرجل وسوء سلوكه وعنصريته في سبيل تبرير فعلتهم بقتله؛ من دون اثارة الرأي العام، لكونه كان منافساً له وله موالين كُثر,
ولهذه الأسباب، وتلبية لدعوات اعادة كتابة التاريخ الاسلامي وفق أدوات البحث الموضوعية كالمقارنة والمقاربة والتحليل والنقد، معززاً برغبتنا الشخصية في البحث بالجوانب التاريخية المشكوك بصحتها من تاريخ العباسيين وظروف قيام دولتهم ونظريتهم السياسية، جاءت محاولتنا البحثية هذه تحت عنوان (أبو مسلم الخراساني - قراءة جديدة في نسبه وظروف تصفيته-).
متن البحث
لم تتفق الروايات التاريخية حول نسب أبي مسلم الخراساني وأصله، فقال (ابن الطقطقي): "أنَّه ولد باصفهان ونشأ بالكوفة"([1])، وذكر (الدينوري) أنَّ مولده "بماء البصرة مما يلي أصفهان"([2])، وأشار (المسعودي) الى أنَّه "كان من قرية من أعمال الكوفة وسوادها"([3])، وهناك من وصفه بأنَّه كان عبداً أو مولاً([4]).
وهكذا تباينت الأقوال فيه بين أنْ يكون حراً أو عبداً، حتى زادها بعض المؤرخين تبايناً، بقولهم: "قدم سليمان بن كثير... فلقوا في قول بعض أهل السير، محمد بن علي فأخبروه بقصة أبي مسلم، وما رأوا منه، فقال لهم: أحر هو أم عبد؟ قالوا: أمّا عيسى فيزعم أنَّه عبد، وأمّا هو فيزعم أنَّه حر، قال: فاشتروه وأعتقوه"([5]).
 ونلحظ من الرواية ارباكاً زاد الأمر تعقيداً، اذ ان محمد بن علي صرح بأنَّه عبد، ثم قال أنَّه حر، مما يثير الشكوك في ما ذكر من روايات خص أصله، اذ إنَّه لو كان عبداً فكيف صرح بأنَّه حر وهو في صحبة من جاءوا به ويعرفونه حق المعرفة، وهم الذين جاءوا به إلى محمد بن علي؟؟ وكيف تسنى له أنْ يدعي أنَّه حر في حين أنَّ عيسى العجلي ادعى أنَّه عبد وهو سيده؟؟، وكيف تسنى لمحمد أنْ يقول: "اشتروه واعتقوه" من دون أنْ يتحقق من أمره وحقيقة حريته التي يدعيها؟؟
وأيد هذه الشكوك بعض المؤرخين بقولهم: "انصرف القوم نحو خراسان، ومرّوا بواسط ولقوا عيسى وادريس إبْنَي معقل، فأخبروهما بحاجة الإمام إلى أبي مسلم، وسألوهما بيعه منهم... فوجه به القوم إلى الإمام، فلما رآه تفرس فيه الخير، ورجا أنْ يكون هو القيم بالأمر لعلامات رآها فيه، قد كانت بلغته، فجعله الرسول فيما بينه وبينهم، فاختلف اليهم مراراً كثيرة"([6]).
اذ كشف هذا النص عن مبالغة في معرفة محمد بن علي بالغيبيات، بحيث أنَّه شخص أبي مسلم بأنه الشخص المطلوب للقيام بالأمر، بقوله: "رجا أنْ يكون هو القيم"، يستشف منه الوضع العباسي في مثل هكذا روايات، بحيث أنَّها لم تثبت على صيغة واحدة على الرغم من أنَّ ابا مسلم شخصية بارزة في الدعوة العباسية التي جاءت ببني العباس للحكم!!
وأكد ذلك ما رواه (البلاذري) "إنَّ الذين أهدياه سليمان بن كثير ولاهز بن قريظ"([7])، في حين أشارت رواية ثانية إلى لقاء محمد بن علي بأبي موسى السراج، وهو من شيعة بني العباس والداعية لهم بالكوفة([8])، وفي رواية ثالثة أخرى أنَّه عمل لمحمد بن علي، وقد عرفه إبراهيم الإمام عندما كان أبوه حياً([9]).
إنَّ هذا الاختلاف والتضارب في الروايات بخصوص أصل أبو مسلم الخراساني ونسبه أشار بوضوح إلى تعمد إخفاء نسبه من بني العباس، وهو انتمائه إلى سليط العباسي، ولاسيما بعد انقلاب المنصور عليه وقتله على يديه، محاولة منه لإبعاد تأثيره في أهل خراسان الذين مالوا اليه كثيراً بوصفه من آل هاشم، وتشويه شخصيته باعتبار أنَّ أكثر المؤرخين يخشون سطوة بني العباس وهم معاصرون لهم، ولا يستطيعون ذكر ما خالف أهوائهم، فعلى الأرجح أنَّهم نقلوا ما روّجَ له بنو العباس من روايات مختلفة بخصوص شخصية أبي مسلم، ليحجبوا حقيقة أصله ونسبه، كونه صاحب قوة ومنعة في حكم بني العباس، وكل خراسان كانت مطيعة له وتأتمر بأوامره، مما شكل خطراً على حكم بني العباس.
وأيد ذلك ما ورد في الرواية الاتية: "كان عبد الله بن عباس وطئ جارية له كان لا يثق بها، وكانت تدخل وتخرج، فجاءت بولد ذكر سماه سليطاً، فكان في حياته يدعوه لأمه، فلما توفي ادعت أم سليط أنَّه من عبد الله، فخاصمت علي بن عبد الله إلى الوليد بن عبد الملك... فأراد أنْ يحكم لسليط، وكره علي بن عبد الله انْ يدخل في نسبه من ليس منه، فارسل إلى سليط: لا حاجة لك في حكم الوليد، فأتني فإنَّي أقربك وأشهد لك، فزعم الناس أنَّ سليطاً قتل، ثم سكرت له ساقية في بستان كان في منزل علي بن عبد الله... فنبشوها فأخرجوه وحملوه إلى الوليد فأمر بعلي بن عبد الله، فأقيم في الشمس"([10]).
ودل هذا على اعتراف علي بن عبد الله بسليط ونسبه إلى عبد الله بن عباس، ومن ثم قتله، في حين أكدت الرواية نفسها أنَّ علي بن عبد الله كره أنْ يدخل في نسبه من ليس منه!! وفي هذا تناقض واضح ولاسيما أنَّ هناك رواية أخرى أكدت أنَّ نسب سليط إلى عبد الله بن عباس قد أثبته قاضي دمشق بشهادة الشهود، وأنَّ قتل سليط جاء على أثر مطالبته بالميراث، وإنْ نُسِب قتله إلى غلمان لعلي بن عبد الله بن العباس، ممّا أدى إلى جَلْد علي بن عبد الله من قبل الوليد ونفيه، وبعد ذلك: "كتب إلى الافاق يشنع عليه، ويقول: انه قتل أخاه"([11]).
لقد أظهرت هذه الروايات أنَّ الخلاف الأساس بين علي بن عبد الله وسليط هو الميراث، ولعل الادعاء بعدم انتساب سليط إلى عبد الله بن عباس يرجع في أصله إلى الخلاف على الميراث، وأنَّ قتله كان نتيجة مطالبته بالإرث، مع الدلالة الواضحة فيها على الوضع في كثير من فصول هذه الروايات كشفه التناقض في مضامينها والتضارب في نصوصها، بدليل أنَّ في بعضها تصريحاً بإقامة عبد الله بن عباس الحد عليها، واستبعد ولدها وسمّاه سليطاً، وكان يخدم علي بن عبد الله، وشخص معه إلى الشام([12]).
وهنا يأتي التساؤل؟ كيف أقام عليها الحد، ومن شهد له بذلك؟ ولاسيما أنَّه كان تحت سلطة ابن الزبير وهو كاره له، بمدلول الرواية: "لما حضرت عبد الله بن عباس الوفاة، قال له أبو محمد علي بن عبد الله: بأي الرجلين تأمرني أنْ الحق... قال يا بُنَي الحق بابن عمك عبد الملك... ودع ابن الزبير فإياك وإياه"([13]).
مما يثير الاستغراب أنَّه إذا كان سليط عبداً وأخذه علي بن عبد الله معه إلى الشام، فلماذا لا تذكر الروايات دفاع علي بن عبد الله عن نفسه وإشهاده الشهود على ذلك وعلى قيام الحد على أم سليط من أبيه، بل أنَّه على العكس من ذلك أقر بنسب سليط إلى عبد الله بن عباس، وشهد الشهود عليه بذلك عند قاضي دمشق، ولم ترد رواية أثبتت دفاع علي بن عبد الله عن عدم شرعية انتساب سليط إلى عبد الله بن عباس، مما يُرجّح أنَّ الخلاف هو خلاف على الميراث، وأنَّ الكثير من النصوص موضوعة لا أساس لها من الصحة.
وأيد اعتقادنا هذا ما ورد من روايات أكدت اعتراف إبراهيم الإمام بنفسه بنسب أبي مسلم، بقوله: "يا عبد الرحمن، إنَّك رجل منّا أهل البيت، فاحتفظ وصيتي، وانظر هذا الحي من اليمن فأكرمهم وحل بين بين اظهرهم، فإنَّ الله لا يُتِمُّ هذا الأمر إلّا بهم"([14]).
وهذا اعتراف صريح بانتساب أبي مسلم إلى سليط بن عبد الله بن عباس، ولا يمكن لإبراهيم الإمام أنْ ينسب أبي مسلم إلى نسبه وهو بنفسه قد أرسله إلى قيادة التنظيم العباسي وترأس على أعضاء فيه كانوا قد أهدوه كمولى لإبراهيم بأنفسهم كما صرحت بذلك بعض الروايات، فكيف يقبلون قيادته لهم وهم أصل التنظيم وأركانه، إذا كانوا يعلمون بحقيقته كمولى لإبراهيم؟؟ وكيف يوافقون على انتسابه لأهل البيت؟؟ وكيف يتسنى لإبراهيم فعل ذلك مع علمهم بحقيقته؟؟ ولاسيما أنَّ العرب كانت تهتم بالأنساب اهتماماً كبيراً، مما دل على أنَّ هذه الروايات المصرحة بأنَّه مولى مشكوك فيها، وعلى الأرجح موضوعة، لتسقيط شخصية أبي مسلم ومن العباسيين أنفسهم، بعد قتله من المنصور العباسي.
بدليل ما رواه (الطبري) بخصوص تسلم المنصور للأمور خلفاً لأخيه السفاح، وإرسال أبو مسلم رسالة إليه جاء فيها: "إنَّه أتاني أمر أفضعني وبلغ مني مبلغاً لم يبلغه شيء قط، لقيني... بكتاب من عيسى بن موسى إليك بوفاة أبي العباس، فنسأل الله... ويحسن الخلافة عليك... إنَّه ليس من أهلك أحد أشد تعظيما لحقك وأصفى نصيحة لك وحرصاً على ما يسترك مني، وأنفذ الكتاب إليه... ثم بعث إلى أبي جعفر بالبيعة"([15]).
وفي هذه الرواية اشارة صريحة بانتساب أبي مسلم إلى العباسيين، بقوله: "ليس من أهلك أحد أشد تعظيماً"، فكيف يمكن لأبي مسلم الانتساب للعباسيين إنْ كان هو مولى لهم!! ولم ينكر المنصور عليه هذا الانتساب!! إذ أورد (الطبري) أيضاً: "فلما جلس أبو مسلم القى إليه الكتاب، فقرأه وبكى واسترجع... ونظر أبو مسلم إلى أبي جعفر وقد جزع جزعاً شديداً فقال: ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة!؟ فقال أتخوف شر عبد الله بن علي وشيعة عليّ! فقال: لا تخفه، فأنا أكفيك أمره إنْ شاء الله تعالى إنَّما عامة جنده ومن معه أهل خراسان، وهم لا يعصونني، فسري عن أبي جعفر ما كان فيه، وبايع له أبو مسلم وبايع الناس، وأقبلا حتى قدما الكوفة"([16]).
في هذه الرواية دلالة على الانتساب إلى العباسيين من دون أنْ ينكر المنصور ذلك، بدليل أنَّ كتاب عيسى بن موسى جاء إلى أبي مسلم وهو الذي أوصله إلى المنصور العباسي!! وهنا يأتي التساؤل لماذا أرسل عيسى بن موسى الكتاب إلى أبي مسلم مباشرة من دون أنْ يرسله إلى المنصور؟؟ ولاسيما أنَّ المنصور كان يمثل مركز الحكم العباسي وأبو مسلم يمثل اقليم خراسان، مما أكد علاقة الانتساب إلى العباسيين!! فضلاً عن أنَّ المنصور أباح لأبي مسلم تخوفه من عبد الله بن علي، وأنَّ أبا مسلم هو الذي عرض على المنصور أنْ يكفيه تمرد عبد الله بن علي، وكشف هذا علاقة أبي مسلم القوية بالمنصور وتفضيله إياه على عمه عبد الله بن علي، مما جعل الشكوك على كثير من الروايات الواردة بخصوص العلاقة بينهما وما جرى من أحداث بهذا الخصوص.
وما يُثير الاستغراب أنَّ هنالك من الباحثين من يبتعد عن الموضوعية ويرجم بالغيب على خلاف ظواهر الكثير من الروايات ويستدل بما لا يصلح للاستدلال، كقول أحد الباحثين: "هناك رواية تقول أنَّ ابا مسلم عربي الأصل، وإنَّه من وِلْد سليط ابن عبد الله ابن العباس، وتستشهد بعبارة للإمام ابراهيم: يا عبد الرحمن إنَّك رجل منّا أهل البيت، ولا شك أنَّ هذه الرواية موضوعة لأنَّ جميع القرائن تدل على أنَّ ابا مسلم مولى فارسي عمل على اسقاط دولة العرب وإحياء دولة العجم"([17]).
متناسياً أنَّ إبراهيم الإمام هو الذي نصّب ابا مسلم الخراساني قائداً على التنظيم العباس في خراسان ومنحه صلاحيات كثيرة، وأنَّ ابا مسلم هو الذي صنع للعباسيين دولتهم، والعباسيون هم عرب وليسوا عجماً، وكذلك ما ورد في وصية إبراهيم الإمام له بالاعتماد على اليمانيين وهم عرب أيضاً؛ فضلاً عن أنَّ وفاة السفاح وتواجد المنصور في طريق الحج كانت فرصة مناسبة لأبي مسلم للقضاء على الدولة العباسية بقتل المنصور والسيطرة على المقدرات إنْ كان يريد ذلك، ولعل التوجه القومي والمذهبي هو المحفز لابتعاد البعض عن الموضوعية في تفسير حوادث التاريخ.
ومن الروايات التي أكدت انتساب أبي مسلم إلى العباسيين، ما أورده (الطبري) بقوله: "لما اضطرب الحبل، كتب سليمان بن كثير إلى أبي سلمة الخلال يسأله أنْ يكتب إلى ابراهيم يسأله أنْ يوجّه رجلاً من أهل بيته، فكتب أبو سلمة إلى ابراهيم، فبعث ابا مسلم"([18]).
وأكد هذا انتساب أبي مسلم إلى العباسيين، وأنَّ إبراهيم الإمام أرسله بناءً على طلب سليمان بن كثير، بقوله: "أنْ يوجّه رجلاً من أهل بيته"، ولا يمكن لإبراهيم أنْ يرسل أبا مسلم لو لم يكن من أهل بيته!! باعتبار أنَّ الطلب مشروط بإرسال شخص من العباسيين، ويغير ذلك فهم أهل التنظيم وقوامه ولا يعقل عدم وجود من يقود التنظيم من بينهم وهم أدرى بأمورهم وأوضاعهم من غيرهم!!
مضافاً إلى ذلك ما جاء في الرواية الاتية: "أنَّ إبراهيم الإمام زوَّج ابا مسلم لمّا توجه إلى خراسان ابنة أبي النجم وساق عنه صداقها، وكتب بذلك إلى النقباء، وأمرهم بالسمع والطاعة لأبي مسلم"([19]).
اذ دلت هذه الرواية على قوة علاقة إبراهيم الإمام بأبي مسلم إلى درجة قام بها بتزويجه من أسرة معروفة ودفع الصداق عنه، وأمرهم بالسمع والطاعة له على الرغم من صغر سنه، مما دلَّ على ترجيح انتسابه للعباسيين، ولاسيما إذا علمنا أنَّ التعصب القبلي يمنع من تزويج الموالي من بناتهم، في وقت كانت العصبية القبلية على أوجها في زمن نصر بن سيار، وكان الصراع محتدما بين اليمانية والمضرية بسبب هذا التعصب!! إذ: "شخص أبو مسلم حتى دخل مرو في سنة تسع وعشرين ومائة، فنزل على أبي النجم، واجتمع النقباء"([20]).
وورد في بعض الروايات اشارات إلى رفض سليمان بن كثير الخزاعي لأمرة أبي مسلم في بداية الأمر، بسبب صغر سنه، والتخوف من فشله في مهمته، وليس لعدم انتسابه إلى العباسيين، مما يزيد الاعتقاد بانتسابه إلى العباسيين، ومن ذلك ما رواه (الطبري) بقوله: "ما حجتكم في رده؟ فقال سليمان بن كثير لحداثة سنه، وتخوفاً الا يقدر على القيام بهذا الأمر، فأشفقنا على من دعونا إليه وعلى أنفسنا وعلى المحبين لنا"([21]).
إنَّ سياسة بني العباس القائمة على المال والخوف، استعملوها مع أبي مسلم الخراساني أيضاً، إذ أنَّ اعتراف بني العباس بانتسابه لهم بعد قتلهم لأبيه وخلافهم معه وظلمهم لأمه، ما هو إلّا نوع من الإغراء وكسب طاعته وموالاته لهم، بحيث أنَّه أصبح صنيعهم في ما يرمونه، ووسيلتهم في تحقيق أهدافهم والوصول إلى السلطة.
ولعل ما أُشيع من روايات مختلفة بخصوص نسب أبي مسلم وأصله يدخل ضمن أساليبهم في الترويض، كإشاعة ما روى عنه من روايات بأنَّه مولى، وفي غيرها أنَّه ابناً ليس شرعياً لعبد الله بن عباس، باعتبار إشاعة عدم شرعية أبيه سليط، سواء قبل تأميره من قبلهم على قيادة التنظيم العباسي في خراسان أو بعد قتله من المنصور، ويأتي مقتله ضمن الحلقة الأخيرة من أُسلوبهم المعتمد في سياستهم.
ويظهر ذلك جلياً عند تتبع الروايات المتعلقة بأبي مسلم وعلاقته بالمنصور منذ بداية ظهوره إلى حين مقتله، فضلاً عن ما أُشيع من روايات حول أصله ونسبه ومن ثم الاعتراف بانتسابه إلى بني العباس وآخرها على لسان إبراهيم الإمام مقارناً لتأميره على قيادة التنظيم العباسي في خراسان قبل ظهوره بفترة وجيزة.
شهد على تلك الروايات المتعارضة والمتناقضة أحيانا، ففي الوقت الذي ذكر (البلاذري): "كان أبو جعفر يأتي دهليز أبي مسلم فيجلس فيه، ويستأذن له الحاجب، ثم أمره بعد ذلك أنَّ له الستور"([22])، ناقضه (الطبري) بقوله: "قال أبو جعفر: لما ظهر أبو العباس... فذكرنا ما صنع أبو سلمة... فأرسل إلى أبي العباس فقال: ما ترى؟ فقلت: الرأي رأيك فقال: ليس منّا أحد أخص بأبي مسلم منك، فأخرج إليه حتى تعلم ما رايه"([23]).
وبيّن هذا قوة علاقة أبي مسلم بالمنصور، وأنَّه أخص بني العباس بأبي مسلم.
وأكد (الطبري) أيضاً عن لسان المنصور نفسه، "خرجت على وجل... فلما كنت بنيسابور، إذا عاملها قد أتاني بكتاب أبي مسلم، إذا قدم عليك عبد الله بن محمد فأشخصه ولا تدعه فإنَّ أرضك أرض خوارج، ولا آمن عليه... فلما كنت من مرو على فرسخين تلقاني أبو مسلم في الناس، فلما دنا أبو مسلم مني، أقبل يمشي إليّ حتى قبَّل يدي"([24]).
وبينت هذه الرواية مدى احترام أبو مسلم للمنصور، بحيث أنَّه استقبله على بعد فرسخين ومن ثم قبَّل يديه، وهو أعلى درجة الاحترام نسبة إلى شخص أبي مسلم باعتباره القائد الذي صنع لبني العباس دولتهم.
أمَّا في مسألة الوقوف بالدهليز فقد ذكر (الطبري) صورة معاكسة تماماً لما ذكره (البلاذري)، بقوله: "عن ... قال: صحبت ابا جعفر من الري إلى خراسان وكنت حاجبه، فكان أبو مسلم يأتيه فينزل على باب الدار ويجلس في الدهليز ويقول: استأذن لي فغضب أبو جعفر عليَّ وقال: ويلك! إذا رأيته فافتح له الباب، وقل له يدخل على دابته، ففعلت وقلت لأبي مسلم: أنَّه قال كذا وكذا قال: نعم، أعلم، واستأذن لي عليه"([25]).
ويظهر من هذه الرواية الخضوع التام والتبجيل الذي أظهره أبو مسلم باتجاه المنصور!!
ولعل التعاكس في الرواية ناتج من إشاعة العباسيين لاستخفاف أبي مسلم بالمنصور لتبرير قتل المنصور له وغدره به!! بدليل أنَّ إشاعة الرواية التي تظهر احترام وتبجيل أبو مسلم للمنصور لا مصلحة لبني العباس في نشرها، فالأرجح هي الصحيحة والرواية المعاكسة هي الموضوعة من العباسيين!!
ومما يُثير الاستغراب هو تأكيد المنصور على استخفاف أبي مسلم به بخصوص مسألة الدهليز، إذ وردت رواية على لسانه نصها: "أعجب من هذا إقعادك إياي في دهليزك بخراسان مستخفاً بحقي، حتى أُشير عليك بخلاف ذلك، فتكارهت على تسهيل إذني وفتح الأبواب لي"([26]).
ورد هذا النص في ما ذكره من اتهام المنصور لأبي مسلم عندما خدعه وأعطاه الأمان فحضر عنده واتهمه بتهم متعددة، منها هذه التهمة ليبرر قتله له، في ساعة قتله إياه، مما دل على أنَّ هذه التهمة التي ذكرتها المصادر التاريخية هي من وضع المنصور وإشاعته.
ومن هذه التهم أيضاً قوله: "قتلت أهل خراسان، وفعلت وفعلت، ثم جعلت تقول بمكة: أيصلي هذا الغلام بالناس! والقيت نعلي من رجلي فرفعت نفسك عن مناولتي إياها"([27]).
ومن النص اتضح أسلوب المنصور الخبيث في تشويه الحقائق وإذلاله لقادة الدعوة العباسية ومنهم أبي مسلم وقتله كُلّ من يظن به ولو شيئاً يسيراً من عدم الخضوع والطاعة العمياء، مع القاء التهم الجاهزة لتبرير قتله إياه، شهد على ذلك اتهامه لأبي مسلم بقوله: "قتلت أهل خراسان".
فهناك من الشواهد التاريخية التي تُثبت بأنَّ قتل أبي مسلم لأهل خراسان كان بأمر من إبراهيم الإمام والمنصور الذي كان أكثر إخوته نشاطاً في تثبيت سلطان بني العباس باعتباره المستشار الاساسي لإبراهيم والسفاح.
ففي رسالة أبي مسلم إلى المنصور قال فيها: "أمّا بعد، فإنَّي اتخذت أخاك إماما، وكان في قرابته برسول الله صلى الله عليه وسلم ومحله من العلم على ما كان، ثم استخف بالقرآن فحرفه طمعاً في قليل من الدنيا.. فأمرني أن أجرد السيف، وأخذ بالظنة، ولا أقبل معذرة، وأنْ أُسقم البريء، وأُبرئ السقيم، ووتر أهل الدين في دينهم، وأوطاني في غيركم... بالإفك والعدوان، ثم إنَّ الله بحمده ونعمته استنقذني بالتوبة وكره الي الحوبة، فإنْ يعف فقديما عرف بذلك منه، وأنْ يعاقب فبذنوبي، وما الله بظلام للعبيد"([28]).
ودلَّ هذا على أنَّ ابا مسلم كان يطيع إبراهيم الإمام والسفاح طاعة عمياء، ولعله كان بتأثير الأُسلوب العباسي في بذل الجاه والمنصب ورفع منزلته والاعتراف بانتسابه إلى العباسيين بعد الضغينة والإنكار التي كانت بينه وبين الاسرة العباسية!! وبين كذلك أُسلوب الخداع الذي اتبعه العباسيون بتحميل غيرهم مسؤولية الأعمال الصادرة وفق أوامرهم ومن ثم استخدامها كورقة ضد المنفذين لها من قادة الدعوة، وأخذهم بها كتهمة جاهزة للقضاء عليهم عندما يقررون ذلك!! وكشف كذلك عن بطلان التفسير الذي تبناه البعض في تحميل أبي مسلم مسؤولية قتل الكثير من العرب وقادتهم بدواعي النزعة الفارسية!!
وأيد هذه السياسة العباسية ما جاء في وصية أبي العباس السفاح من بعد وصية إبراهيم الإمام، ونصها: "تقدم إليه أبو العباس ألّا يدع بخراسان عربياً لا يدخل في أمره إلّا ضرب عنقه"([29])، فضلاً عن ذلك ما ورد في قول أبي مسلم لسليمان بن كثير الخزاعي عندما أراد قتله امتثالاً للوصية نفسها: "أتحفظ قول الامام لي: من اتهمته فاقتله؟ قال: نعم، قال فإنَّي قد اتهمتك، فقال: انشدك الله!، قال: لا تناشدني الله، وانت منطوٍ على غش الإمام، فأمر بضرب عنقه "([30])، من الشواهد الأخرى ما ذكره (البلاذري): "قتل سليمان وكتب إلى أبي العباس بخبره وقتله إياه، فلم يجبه على كتابه"([31]).
مما دل على أنَّ ابا مسلم قتل سليمان بن كثير بأمر من السفاح، وإنْ لم يكن كذلك فما الغرض من إرساله بالكتاب إلى السفاح بعد قتله سليمان؟؟ إنْ لم يكن قد استشاره في ذلك قبل قتله إياه؟!! وإنَّ عدم اجابة السفاح الكتاب يدخل ضمن السياسة العباسية في تحميل قادة الدعوة مسؤولية الأعمال الصادرة وفق ما يقرره العباسيون وعدم إعطاء أي دليل يثبت تورطهم في أي من هذه الجرائم والأعمال، لاستخدامها لاحقاً بالضد من منفذيها كَتُهمٍ يعاقبون عليها ويؤخذ القصاص منهم بها عند الحاجة!!
وكشفت رواية أخرى إتباع هذا الأُسلوب في قتل أبي سلمة الخلال من أبي مسلم، عندما كتب السفاح إلى أبي مسلم طالباً منه إبداء رأيه في ما صدر من أبي سلمة الخلال من الغش، "فكتب أبو مسلم... إنْ كان اطلع على ذلك منه فليقتله، فقال داود بن علي لأبي العباس، لا تفعل.... فيحتج عليك بها أبو مسلم، وأهل خراسان الذين معك، وحاله فيهم حاله، ولكن أُكتب إلى أبي مسلم فليبعث إليه من يقتله، فكتب إلى أبي مسلم بذلك، فبعث بذلك أبو مسلم مرار بن انس الضبي، فقدم على أبي العباس... وأعلمه بسبب قدومه... فعرض له مرار بن انس ومن كان معه من أعوانه فقتلوه، وأُغلقت أبواب المدينة، وقالوا: قتل الخوارج ابا سلمة، ثم أخرج من الغد، فصلى عليه يحيى بن محمد بن علي، ودفن في المدينة الهاشمية"([32]).
نلحظ من نص الرواية بيان الصورة الواضحة للسياسة العباسية في التعامل مع قادة الدعوة، بحيث أنَّهم يقتلون القتيل ويشاركون في تشييع جنازته لتبرئة ساحتهم!!
أمّا بخصوص التهمة الموجهة لأبي مسلم في خطبته أمينة بنت علي العباسي، فلا يوجد دليل تاريخي يثبتها، إلّا قول المنصور لأبي مسلم ساعة قتله، والأرجح أنَّها كانت تهمة جاهزة لتسقيط شخصية أبي مسلم الخراساني ونفي انتسابه إلى الأُسرة العباسية بعد أنْ أثبتوه بأنفسهم!! دلَّ عليه قول المنصور: "قولك: إنَّك ابن سليط بن عبد الله"([33]).
والغريب في ذلك أنَّه لا توجد رواية تاريخية أثبتت خطبة أبي مسلم أو أشارت إليه أو إلى زمانه ومكانه، والإشارة الوحيدة إليه هي قول المنصور نفسه مضافاً إلى ذلك فإنَّ قوله أثبت أنَّ سليطاً هو ابن عبد الله بن العباس: "إنَّك ابن سليط بن عبد الله"، إذ لم يتعرض بقوله إلى عدم انتساب سليط إلى عبد الله بن العباس أو إظهاره بأنَّه الابن غير الشرعي له، مما أكد أنَّ سليطاً ابن عبد الله ابن العباس على خلاف ما أشاعته بعض الروايات بأنَّه ابن غير شرعي له!!
وزاد في الاعتقاد ان خطبة أبي مسلم لأمينة بنت علي هي فبركة لا صحة لها، ما ورد في الرواية من تزويج إبراهيم الإمام ابنة أبي النجم لأبي مسلم وإعلامه نقباء الدعوة العباسية في خراسان بذلك، مما يُثير التساؤل لماذا لم يخطب أبو مسلم أمينة بنت علي في هذا الوقت من إبراهيم الإمام بدلاً عن ابنه أبي النجم ما دام إبراهيم الإمام كان قد قام بنفسه بدفع صداق هذا الزواج، والذي أشار إلى اهتمام إبراهيم الإمام بزواج أبي مسلم؟؟
وإنَّ هذه الخطبة لا يمكن أنْ تكون بصورة سرية وعادية لما يمتلكه بنو العباس من أُبهة وتعالي باعتبارهم القادة المطاعون من قادة الدعوة العباسية، ولا يمكن أنْ تخفى على المؤرخين وفي أقل الأحوال قيام المنصور بإشاعة الخبر لأجل أنْ يكون دليلاً على صدق ادعاءه بهذه التهمة، وهذا ما لم يحدث، مما دل على أنَّها لا وجود لها!!
أمّا المرحلة الأخيرة من دور أبي مسلم الخراساني في الدعوة والدولة العباسية التي انتهت بمقتله، فقد كان المنصور قد خطط لها بدقة وإحكام!!، مستخدماً فيها الحيلة والخداع، ظهر ذلك واضحاً من خلال الروايات التي أشارت إلى وقائع القضاء على تمرد عبد الله بن علي العباسي بواسطة أبي مسلم الخراساني!!
إذ كان المنصور: "جباراً عتياً، ومندفعاً متسرعاً، ومغامراً مخاطراً، يود أنْ يقمع المناوئين لبني العباس قمعاً، وأنْ يعسف بالمتهمين عندهم عسفاً، حتى يكونوا عبرة ونكالاً لغيرهم فيستكين الناس لهم، ويرهبوا التنديد بهم، ويهابوا الخروج عليهم"([34]).
حيث أظهر هذا النص المقتبس من مصادر تاريخية عديدة([35])، وضح نفسية المنصور وأُسلوبه السياسي في التعامل مع المناوئين والمشكوك بعدم ولائهم له!!
فقد كان المنصور عازماً على قتل أبي مسلم الخراساني منذ بداية انتصار التنظيم العباسي وإسقاط الحكم الأُموي، اذ "انصرف أبو جعفر من عند أبي مسلم فقال لأبي العباس: لست خليفة، ولا امرك بشيء إنْ تركت ابا مسلم ولم تقتله، قال، وكيف؟ قال: والله ما يصنع إلّا ما أراد، قال أبو العباس: اسكت فاكتُمها"([36]).
فقد صرح هذا النص ما ضمره المنصور من نوايا تجاه أبي مسلم منذ البداية، وعليه فإنَّ التهم التي وجهها لأبي مسلم ساعة قتله لم تكن إلّا تهما مفتعلة ضمن مسلسل الخداع والمكر الذي امتاز به لتبرير قتله لأبي مسلم، ولعله كان قد جعلها وسيلة لزرع الخوف عند بقية أركان الدولة العباسية من القادة والمتنفذين، بحيث يحسبون لكل تصرف منهم حساباً يجعلهم يخافون من كُلّ حركة أو مجرد فكرة ترد في مخيلتهم لا تتوافق مع رغباته وأهواءه، ولو باحتمال ضئيل، وبالنتيجة يصبحون كالعبيد المطيعين طاعة عمياء، لا يتصرفون إلّا عن أمره واستشارته وإحاطته بكل الأُمور!!
وعزز هذا الاعتقاد ما ورد بسعي المنصور لقتل أبي مسلم في كُلّ فرصة سانحة، منها إغراءه لأبي العباس السفاح بقتل أبي مسلم أثناء قدومه للحج بقوله: "إنَّ في رأسه لغدرة، فقال: يا أخي، قد عرفت بلاءه وما كان منه، فقال أبو جعفر:...إنَّما كن بدولتنا، والله لو بعثت سنوراً لقام مقامه، وبلغ ما بلغ في هذه الدولة !، فقال له أبو العباس، فكيف نقتله؟ قال: إذا دخل عليك وحادثته وأقبل عليك، دخلت فتغفلته فضربته من خلفه ضربة أتيت بها على نفسه، فقال أبو العباس: فكيف بأصحابه الذين يؤثرونه على دينهم؟ قال: يؤول ذلك كله إلى ما تريد، ولو علموا أنَّه قد قتل تفرقوا وذلوا: قال: عزمت عليك ألّا كففت عن هذا، قال: أخاف والله إنْ لم تتغده اليوم، يتعشاك غدا"([37]).
وعكس هذه الرواية النفس الشريرة للمنصور وابتعاده عن كُلّ جوانب القيم والأخلاق واتصافه بصفات الغدر والخيانة والإجرام، التي لا يمكن في كُلّ الأحوال أنْ اتصف بها من سمّي نفسه خليفة للمسلمين.
وهكذا بقي المنصور يتحين الفرصة لقتل أبي مسلم حتى جاءته فرصة تمرد عبد الله بن علي العباسي، خطط فيها لقتل الاثنين معاً والتخلص منهما، اذ جاء في الرواية قول أبي أيوب المورياني: "نحن لأبي مسلم أشد تهمة منّا لعبد الله بن علي إلّا إنّا نرجو واحدة"([38]).
وأكد هذا التخطيط المسبق لقتل أبي مسلم الخراساني قبل انتدابه لقتال عبد الله بن علي، وإنَّ انتدابه للقتال وفر فرصة ذلك، اتضح من القول: "إلّا إنّا نرجو واحدة"، فمقتل أبي مسلم كان من ضمن رغبات المنصور التي كان يخطط لها.
وبعد هزيمة عبد الله بن علي على يد أبي مسلم، لم يبقَ أمام المنصور إلّا استغلال الفرصة باستبعاد أبي مسلم عن خراسان مكان قوته وسلطانه وافتعال أزمة بينه وبين أبي مسلم تبرر له قتله باستخدام الحيلة والخداع، فأرسل إليه من يحصي عليه الغنائم مما أدى إلى غضب أبي مسلم، وقال: "اؤتمن على الدماء ولا اؤتمن على الأموال"([39])، وأرسل إليه المنصور: "إنَّ قد وليتك مصر والشام فهي خير لك من خراسان"([40])، فغضب أبي مسلم وقال: "هو يولّيني الشام ومصر وخراسان لي واعتزم بالمضي إلى خراسان"([41]).
لقد أشارت هذه النصوص إلى الخطة المحكمة التي جعلت أبا مسلم بين أمرين لا ثالث لهما، أمّا الخضوع التام بانتظار فرصة أُخرى لقتله، أو التمرد الذي يصبح مبرراً كافياً لقتله بعد أنْ يجعله بأزمة نفسية تفقده عزمه وتثير الفرقة والاختلاف بينه وبين أعوانه وقادته وأنصاره!!
بدليل ما كتبه إلى المنصور بقوله: "قد كنّا نروي عن ملوك آل ساسان: إنَّ أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة، غير أنَّها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإنَّ أرضاك ذاك، فأنا كأحسن عبيدك، فإنْ أبيت إلّا أنْ تعطي نفسك إرادتها، نقضت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي"([42]).
ووضح هذا النص الوضع النفسي المهزوز لأبي مسلم الذي أوقعه فيه المنصور بتخطيطه، وجعله في حلقة التهمة المبررة لقتله، أكد ذلك ما رواه (الطبري) بقوله: "كان أبو جعفر قد كتب إلى أبي داود، وهو خليفة أبي مسلم الخراساني حين أتهم ابا مسلم: إنَّ لك إمرة خراسان ما بقيت فكتب أبو داود إلى أبي مسلم: إنّا لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيه (ص) فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلّا بإذنه، فوافاه كتابه على تلك الحال، فزاده رعباً وهماً"([43]).
وتبيّن من النص التخطيط المؤثر في نفسية أبي مسلم الذي أوهن عزيمته، والأُسلوب المخادع الذي استخدمه المنصور بتنصيب أبي داود وإغرائه بالمنصب بحيث جعله منافراً لأبي مسلم ومشجعاً له بالرجوع إلى الطاعة: مما جعل ابا مسلم يتردد في الذهاب إلى خراسان قائلاً: "إنّي قد كنت معتزما على المضي إلى خراسان، ثم رأيت أنْ أوجه ابا اسحق إلى أمير المؤمنين فيأتيني برأيه، فإنَّه ممن أثق به، فوجهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل ما يُحِبُّ وقال له أبو جعفر، اصرفه عن وجهه، ولك ولاية خراسان، وأجازه، فرجع أبو اسحاق إلى أبي مسلم فقال له، ما أنكرت شيئاً، رأيتهم معظمين لحقك، يرون لك ما يرون لأنفسهم، وأشار عليه أنْ يرجع... فيعتذر إليه مما كان منه... وكتب أبو مسلم إلى أبي جعفر يخبره أنَّه منصرف إليه"([44]).
يبدو من النص أُسلوب المنصور في الإغراء بالمناصب والامتيازات لأبي اسحاق لأجل خيانته أبي مسلم الذي وثق به وأرسله، رغبة وطمعاً في ما أبداه له المنصور من إعطائه ولاية خراسان بدلاً عن أبي مسلم!! وكان المنصور قد أعطى الوعد بولاية خراسان لأبي داود خليفة أبي مسلم بخراسان.
وهكذا استخدم المنصور أُسلوب الخداع بالترغيب تارة والتهديد تارة إلى درجة نكث بها بوعوده والأمان الذي أعطاه لأبي مسلم قبل قدومه من دون وازع ديني أو أخلاقي أو إنساني يمنعه من ذلك!! إذ كان أبو مسلم محترزاً ومحتاطاً لكل ما ضمره له المنصور من مكر وخداع!! قال (المقدسي): "حلف له أبو جعفر بكل يمين يحلف بها ذوو الأديان من الطلاق والعتاق والأيمان، وضمن له عيسى بن موسى، وجرير بن يزيد... الوفاء من أبي جعفر بالعهد، وكتبوا له كتب الأمان"([45]) .
ووفق هذا النص توضحت شخصية المنصور المتقاطعة عن قيم الانسانية ومبادئ الديني، التي شوهت التاريخ الإسلامي، بما حمله الإسلام من قيم ومبادئ سامية يجب توفرها في كُلّ حاكم يحكم المسلمين.
وغدرَ المنصور كذلك بأبي اسحق رئيس حرس أبي مسلم، وأراد قتله بعد أنْ حبسه، وكان قد وعده بولاية خراسان قبل مقتل أبي مسلم، وقام بإطلاق سراحه بعد التشفع له عند المنصور، مقابل تفريق جماعة أبي مسلم، إذ جاء في الرواية قوله: "يا أمير... جنده جندك، أمرتهم بطاعته فأطاعوه... ثم قال له أبو جعفر: فرّق عني هذه الجماعة"([46]).
وفعل المنصور الأمر نفسه مع مالك بن الهيثم الخزاعي رئيس شرطة أبي مسلم، اذ: "أمره بمثل ما أمر به أبا اسحاق من تفريق جند أبي مسلم"([47]).
إنَّ سياسة المال والخوف في تعامل المنصور أثبتت أنَّه لم يكن له هم سوى حصر السلطان بيده وبالأسرة العباسية من بعده من دون أي شيء آخر، ولا اعتبار له للمبادئ أو للأشخاص مهما كان إخلاصهم لسلطان بني العباس.
بدليل ما جرى لأبي مسلم واتباعه المقربين على الرغم من إخلاصهم وتفانيهم لدولة بني العباس، إذ جاء في الرواية: "إنَّ عيسى بن موسى دخل بعدما قُتل أبو مسلم، فقال: يا أمير... ابن أبو مسلم، فقال: كان ههنا آنفا!! فقال عيسى: يا أمير... قد عرفت طاعته ونصيحته ورأي الامام ابراهيم كان فيه، فقال: يا انوك! ... ما أعلم في الارض عدواً اعدى لك منه.. وكان لعيسى رأي في أبي مسلم فقال له المنصور: خلع الله قلبك! وهل كان لكم ملك أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم!"([48]).
وبرز من هذه الرواية دكتاتورية المنصور واستبداده، بحيث أنَّه لم تشفع عنده آراء المقربين إليه من بني العباس، ولا إخلاص العاملين على تثبيت حكمه، إذ كشف قول عيسى بن موسى عن إخلاص أبي مسلم للأسرة العباسية، لكن المنصور لا يعرف سوى إشباع رغباته النفسية في جعل المخلصين كبش فداءٍ لإخافة من يفكر بإبداء رأيه في مقابل رأيه وهواه من القادة أو العلماء أو أصحاب الجاه الاجتماعي وحتى عامة الناس.
برهن على ذلك قوله في خطبته بعد قتل أبي مسلم: "أيّها الناس، لا تخرجوا من أُنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة، فإنَّه لم يسر أحد قط منكرة إلّا ظهرت في آثار يده، أو فلتات لسانه، وأبداها الله لإمامه... إنَّه من نازعنا عروة هذه القميص أجزرناه خبي هذا الغمد، وإنَّ أبا مسلم بايعنا، وبايع الناس لنا، على إنَّه من نكث بنا فقد أباح دمه، ثم نكث بنا فحكمنا عليه حكمه على غيره لنا"([49]).
وأظهر قوله هذا تماديه في الادعاء بتمثيله للإله في الارض، واستخدامه الكذب في قلب الحقائق، بقوله: "ثم نكث بنا" الذي كذبه ما جرى لأبي مسلم، واعطاء الأمان له، فضلاً عن التهديد بالقتل لكل من يسر في دواخله مخالفة أو اعتراضاً على ما هواه ويقوم به، أو يضمر عدم الرضا لحكمه، وهذا ما لم يدعيه الأنبياء والرسل، ولا يتوافق مع المبادئ التي جاءوا بها من عند الله تعالى، مما ثبت خروجه عن أصول الإسلام وافترائه الكذب على الله تعالى بادعائه.
الخاتمة
أظهر البحث ان أبا مسلم الخراساني كان من كبار الدعاة العباسيين، ومن المؤسسين البارزين للدولة العباسية، وكان له موالي كُثر، بحيث برز كمنافس للحكام العباسيين السفاح والمنصور، لذلك عمدا الى تشويه نسبه، وتغييب الواقع بانتمائه إلى سليط العباسي، تمهيداً لتصفيته.
وان هذه الحملة الدعائية التي شنها على وجه الخصوص المنصور بحق أبي مسلم الخراساني حول الشك في نسبه وسوء سلوكه ومحاولته ابراز العنصر الفارسي على حساب العنصر العربي في الدولة الجديدة، كلها مزاعم تم بثها بعد وقوع الاختلاف بينما، محاولاً بذلك أن يضع التبريرات لقتل أبي مسلم، من دون أن يثير الرأي العام، ولاسيما أهل خراسان الذين كانوا يبجلون أبو مسلم ويحترمونه.
وكان لعدد كبير من المؤرخين دور سلبي في ذلك، من خلال تبنيهم لمزاعم السفاح وأخيه المنصور بخصوص أحقية العباسيين بالخلافة وتشويه صورة كل من يعترض على ذلك من العلماء والقادة، خشية من سلطانهم، وطمعاً بالمال والمناصب.
هوامش البحث ومصادره


([1]) الفخري، ص100.
([2]) الأخبار الطوال، ص339.
([3]) مروج الذهب، ج4/ ص59.
([4]) اليعقوبي، تاريخ، ج3/ ص67؛ ابن خلكان، وفيات الاعيان، ج1/ ص280.
([5]) الطبري، تاريخ، ج7/ ص 227؛ مؤلف مجهول، اخبار الدولة العباسية، ص237؛ ابن الاثير، الكامل، ج5/ ص274؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج10/ ص5.
([6]) الدينوري، الاخبار الطوال، ص338؛ ابن الاثير، الكامل، ج5/ ص361؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج10/ ص31.
([7])  انساب الاشراف، ج3/ ص120.
([8]) البلاذري، انساب الاشراف، ج3/ ص؛ مجهول، اخبار الدولة العباسية، ص254.
([9]) البلاذري، أنساب الاشراف، ج3/ ص119؛ مجهول، اخبار الدولة العباسية، ص256.
([10]) مجهول، أخبار الدولة العباسية، ص 149.
([11]) البلاذري، انساب الاشراف، ج3/ ص78- ص79؛ المقدسي، البدء والتاريخ، ح6/ ص53؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج10/ ص45.
([12]) البلاذري، أنساب الأشراف، ج 3/ ص78 - ص79 .
([13]) مؤلف مجهول، أخبار الدولة العباسية، ص131.
([14]) ابن قتيبة، الامامة والسياسة، ج 2/ ص137؛ ابن الاثير، الكامل، ج5/ ص347؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج10/ ص27.
([15]) تاريخ، ج7، ص331– ص332.
([16]) تاريخ، ج7/ ص332.
([17]) العبادي، في التاريخ العباسي والفاطمي، ص24.
([18]) تاريخ، ج7/ ص246.
([19]) الطبري، تاريخ، ج7/ ص251؛ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ح10/ ص207؛ ابن الاثير، الكامل، ج5/ ص361.
([20]) مجهول، اخبار الدولة العباسية، ص270.
([21]) تاريخ، ج7/ ص360؛ وينظر: ابن الاثير، الكامل، ج5/ ص361؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج10/ ص31.
([22]) أنساب الاشراف، ج3/ ص155.
([23]) تاريخ، ج7/ 
([24]) المصدر نفسه، ج7/ ص313.
([25]) المصدر نفسه، ج7/ ص313.
([26]) البلاذري، أنساب الاشراف، ج3/ ص205؛ اليعقوبي، تاريخ، ج2/ ص367؛ الطبري، تاريخ، ج7/ ص490؛ الازدي، تاريخ الموصل، ص165؛ ابن الاثير، الكامل، ج5 / ص475؛ ابن طباطبا، الفخري، ص151.
([27])
([28]) البلاذري، انساب الاشراف، ج3/ ص204، الطبري، تاريخ، ج7/ ص483؛ ابن الاثير، الكامل، ج5/ ص470.
([29]) الدينوري، الاخبار الطوال، ص359.
([30]) الطبري، تاريخ، ج7/ ج45؛ ابن الاثير، الكامل، ج 5/ ص 436.
([31]) أنساب الاشراف، ج3/ ص168.
([32]) اليعقوبي، تاريخ، ج2/ ص352.
([33]) البلاذري، أنساب الاشراف، ج3 / ص205؛ الطبري، ج7/ ص490؛ المقدسي، البدء والتاريخ، ج6/ ص81، ابن خلكان، وفيات الاعيان، ج3/ ص154.
([34]) عطوان، الدعوة العباسية، ص387.
([35]) البلاذري، انساب الاشراف، ج3/ ص 208؛ الطبري، تاريخ، ج7/ ص507.
([36]) الطبري، تاريخ، ج7/ ص450، ابن الاثير؛ الكامل، ج5/ ص437.
([37]) الطبري، تاريخ، ج7/ ص466؛ ابن الاثير: الكامل، ج5/ ص455.
([38]) الطبري، تاريخ، ج7/ ص531؛ ابن الاثير، الكامل، ج4/ ص350.
([39]) المسعودي، مروج الذهب، ج3/ ص302.
([40]) الطبري، تاريخ، ج7/ ص 338.
([41]) المصدر نفسه، ج7/ ص339.
([42]) الطبري، تاريخ، ج7/ ص339.
([43]) المصدر نفسه، ج7/ ص341.
([44]) المصدر نفسه، ج7/ ص341.
([45]) البدء والتاريخ، ج6/ ص79.
([46]) الطبري، تاريخ، ج7/ ص492 – ص493؛ ابن الأثير، الكامل، ج5/ ص477؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج1/ ص72.
([47]) الطبري، تاريخ، ج7/ ص493؛ المسعودي، مروج الذهب، ج3/ ص304؛ ابن الاثير، الكامل، ج5/ ص477.
([48]) الطبري، تاريخ، ج7/ ص492؛ ابن قتيبة، الامامة والسياسة، ج 2/ ص162؛ ابن الاثير، الكامل، ج5/ ص476؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ح10/ ص70.
([49]) الطبري، تاريخ، ج8/ ص94؛ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ح10/ ص210؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ح10/ ص71.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق