إليك سيدة النساء - مركز الأمة الواحدة
إليك سيدة النساء

إليك سيدة النساء

شارك المقال

الشيخ عبد القادر ترنني
رئيس جمعية الاثر الطيب

أعرف لماذا أريد الكتابة لكنني لا أعرف كيف أبدأ ولا من أين أبدأ!!

ما أعرفه أن الحضارة التي تمجد النساء وتحكي عن حقوقهن حكايات ولا "ألف ليلة وليلة" لم تفكر لحظة في البحث عن أنموذج حي من نماذج التاريخ عساها تقتفي آثارها في حالكات العصر الحديث الذي لم يَخْبُرْ حقيقة السيادة التي يمكن أن تتمتع بها المرأة في الإسلام الحق باستقلالية حقيقية تامة متناهية.... ولعل هذا النموذج الحي لا يمكن أن نجده بأبهى صوره الكمالية الرائعة الفريدة عند غير سيدة النساء.
كانت للخلق سيدة ولا أروع، ولا تزال سيدة، وستبقى أبد الدهر السيدة التي لا ترقى إلى رتبتها الخليقة برجالاتها قبل النساء!!!

أخط اليوم بيراع قلبٍ ذرَّاتُه تخفق، وجوانبه ترتجف، والصدر يضيق ثم يتَّسع... أحاول البدء بصورة أكثر إشراقا من أختها، فإذا الإشراق صبغة غنّاء، وإذا الضياء نعمة ولا أرفع، وإذا الأنوار منحة تتلألأ في سماء الكون، تسطع في كل قلب طاهر نقي.

سيدة النساء

من قبل القوانين الإنسانية والشرائع البشرية المعاصرة كنتِ أنت سيدة النساء ولا فخر، استمددت السيادة من سيد الخلق الذي ابتعثه الله تعالى رحمة للعالمين، وعَلما يهتدي بضيائه عباد الله المؤمنين... 

أراك بعين قلبي نورا يغمر الحياة ويخترق ضبابها المدلهمَّ، ليعبر نسيما رقيقا يداعب روحا طالما ران عليها ريحُ سَموم العصيان المنتشر في جنبات الكون... 

ها أنا ذا أتلمّس ضياءك بعيني فؤادي، أسير خلف شعاع سنا من سناك الزاخر... يطير فأطير معه... يسبح في سماء الطهر فيجذبني جذبة رقيقة حنونا... يكلأني بهاء... يحجبني عن عالم المادة المتسخ بتلاوين السيئات والآثام، وبهرجة الأكاذيب والبهتان... ها هو ذا يحنو على قلبي الدامي حنوًّا يدلّلني للحظات، فأنسى الكون بحذافيره، وأنسى ذاتي بوجودها، أستظل بفيء إيمانك فأحيا الدلال وأي دلال! وأشهد الجمال وأي جمال!!! 

وهل ذلك كله إلا ببركتك يا سيدة النساء؟!!!

ها هي أيامك تطل على عالمي، تسعف المؤمنين، تحضن المتعبين، تغمر المحزونين... تنادي ضمائرهم الحرة وعقولهم المنفتحة على الخير، تذكرهم بأيام الله القادمة وأحلامهم الواعدة، تدفعهم رغم الركود، وتندبهم إلى الرقي بعد الجمود... وهي من هي؟؟ 

هي السيدة الزهراء البتول التي رافقت أباها النبي الكريم (ص)، صاحب القلب الرؤوف... 

ها أنا ذا أشهد دمعاتك السخية تنهمر من مآقيك الغائرة من طول سهر أغرقها في بحر المناجاة العابق برحيق عبير الجنان، تدخل بيت أبيها، تناديه بأدمع عينيها، تشكو إليه تآمر المجرمين وتعاقدهم على اغتيال من أراد لهم الحياة الكريمة... 

لقد عرفت أباها في النهار متعبدا مصليا صائما، كما عرفته في الليالي ساجدا لجلال الحق متهجدا، عرفته منذ أن كانت في رحم أمها الطاهر المطهر عنوان رحمة، وبحرا من نور، ودفقا من نقاء انصب في حناياها انصبابا، حتى اختلط بكل جُزَيئة من ذُرَيْرَات كيانها الأسمى، ويوم رضعت من سيدة النساء خديجة الطاهرة - أمها - لبان العزة والحق والنقاء، اكتملت رؤية العوالم في عينيها وهي لا تزال ناعمة الأظفار، تشهد بأنوار الحق والحقيقة كمالات الأنوار القدسية المنعكسة على صفحة الوجود جلالا وجمالا وهيبة، ثم يوم هجرت أمُّها السيدةُ المطهرة عالمَ الخلق ملتحقة بعالم الحق الذي زفها إليه ملائكة الجنان، ورثت السيادة والكرامة والنقاء مكللا بتاج اليتم الذي تكلل به والدها النبي يوم كان في رحم أمه طهرا منتشرا في أحشائها... لتحلق بعد ذلك هذه السيدة البتول في عالم الكمالات، فتغرف السيادة عن جدارة، ولتستقي تلك السيادة النقية من أنهار سناءات نبوية تُغذيها صباح مساء... لتؤول - رغم صغر سنها- أمَّ أبيها!! 

ينظر إليها النبي الأكرم (ص) فيرى فيها خير مثال للأم التي تخاف على بضعتها، تحميه بضيا عينيها، تفديه بقلبها ودماها...

وتبكي الزهراء بكاء مريرا تخشى فقدان أبيها النبي بعد أن فقدت أمها سيدة النساء وحبيبة سيد الأنبياء، تذرف دموع الخوف والحرقة والأسى والالتياع، لقد عرفت أن الغذاء الذي يتغذى به الناس مختلف عن غذائها، وأن حياتها المحفوفة بالابتلاء ليست كحياة الناس المزدانة بالسعادة والأفراح، والدعة والهدوء، والبهجة والمسرات...

وتنحدر دمعاتها لؤلؤا يسترعي انتباه الأب النبي الحنون، فيقبل عليها مهدِّئا روعَها، ومسكِّنا حرقة وجدها، ومعلِّما حتى في أحلك ساعات التآمر والجناية، يأمرها بأن تأتيه بوَضوئه فيتوضأ، ويخرج على القوم بسلاح لم تشهد البشرية إلى يومنا هذا سلاحا يشابهه، وترى بأم عينها كيف طأطأ الجبابرة رؤوسهم ساعة طلع عليهم الرسول الكريم بهيبته العظيمة، فلم يحركوا ساكنا، ولم يتزحزحوا من أماكنهم، وهو يحثو التراب في وجوههم قائلا: "بسم الله شاهت الوجوه" .... لقد انتشت الزهراء بنصر الله تعالى لأبيها وتأييده ضعفَه... سكنت روحها لتترقرق دموع الفرح في مآقي البراءة، فتشرق علينا معرفة وعِلما نقتفيه في كل لمحة من لمحات عمرنا السائر...

أيتها الزهراء البتول... أراك... حقيقة أراك... كلما قرأت الحق أراك... كلما تحدثت عن النبي أراك... أشهدك الآن وأنت تسمعين بأن أشقى قريش قد آذى النبي (ص) ورمى على ظهره الشريف سلا بعير وهو يصلي في جوار بيت الله تعالى وكعبته المشرفة، فلم يستطع أبوك القيام، ولم يترك الصلاة صلته بالله العظيم، أراك الآن وأنت تضعين الرداء على عاتقك مسرعة باكية ضارعة إلى رب الأرباب، تركضين في أزقة مكة وأنت ترفعين شكواك إلى الله تعالى... وتَصِلين إلى نبيك وحبيبك وضيا عينيك، وتَرين ما لا يَسُرُّكِ، تشهدين صورةً ما رغِبتِ في حياتك أن تقع عيناك على مثلها!! 

فأيُّ قوم هؤلاء الذين يطلبون الهلاك بتعدِّيهم على حرمات أحب الخلق إلى الله تعالى، بل يشترون الضلالة بإيذاء أكرم المخلوقين على الله تعالى...؟! 

وفهمتِ سيدتي - على رغم سنك الصغير - ما لم تفهمه عقول الكهول والشيوخ بما أوتوا من حكمة وخبرة وحصافة رأي ورويَّة... وتقبلين على حبيب القلوب، مَنْ غضبت لإيذائه ملائكة الأرض والسماء ضاجَّةً صاخبة متوعدة...، لكأني بك تسمعين تململها من الجناة، وترقبين تذمرها من الجبناء، وتسألين الرب سبحانه ألا ينزل على قوم أبيك ما نزل بقوم عاد وثمود... فأيُّ رحمة هذه التي وضعها الله تعالى في قلبك يا ابنة الرحمة المهداة؟؟!!...

وتهجمين يا حبيبة القلوب المؤمنة على المجتبى المختار، ثم تنزعين عن ظهره الأوساخ وأنت تبكين وتتحسرين على قوم لم يعرفوا نبيهم، ولم يريدوا الخير الذي جاءهم به، بل طالما عملوا على استئصاله في مهده... 

ويختتم النبي (ص) صلاته وهو يرى في عينيك الأسى، فيضمُّك إلى صدره، ويهدِّئ من روعك، ثم يخاطبك بلسان القال والحال أن: "اصبري بُنيَّتي ولا تخافي فإن الله تعالى ناصر أباك ومظهر دينه..."؛ وأنت سيدتي كما أنت تحملين هَمَّ الإسلام وهَمَّ الدين والخوف على النبي الأمين يا أمَّ أبيك النبي الأمين!!!

لله درك يا سيدة النساء، ويا بضعة سيد الأنبياء والأصفياء، ما أبهاك وما أصفى روحك!! 

لله درك كم هي رقيقة مشاعرك، وكم هي شفافة بصيرتك!! 

ألا فلتشهد الأرض ومن عليها بأنك نعمة من نعمة، ورحمة من رحمة، وقدوة من قدوة، لكن أبناءنا عنك غافلون، فلا النساء يعرفن غير اسمك، ولا الرجال يعرفون قدرك، ولا الأمة تبحث عنك في سبلها الممزقة لِتَرْقَعِي بنَهْضَتِكِ اهتراءَها، ولِتَجْلي بنقائِكِ غُبْرَتَها، ولتضيئي بأنوارك ظلمتها...

ها أنا ذا أسمع دويَّ صوت يتجلجل، فتستفيق له الكائنات، أصغيتُ مَلِيًّا فإذا به صوتك سيدتي يستنهض أبناء الأمة، يوقظهم، يُسائلهم: "إلى أين أنتم ذاهبون؟ ولماذا أنتم عنا معرضون؟ كيف تدَّعون حبنا ولا تتشبهون بنا؟ كيف تزعمون امتثالكم أمرنا، وأبناؤكم وبناتكم لا يعرفون طريقنا وطهارته، بل يسعون ليل نهار خلف غيرنا، ويبتهجون بسموم أعدائنا، ثم يصفقون لقذاراته المقيتة، ويرتدون عباءاتها الوسخة المشينة...؟؟ 

ما أكثر ادعاءاتكم وما أقل استجابتكم لندائنا!! 

كلَّ يوم يُطلعني فيه الحق على أحوالكم أسأله المغفرة لكم والسماح عنكم، هنا بناتكم اللواتي تسمين باسمي على المنكر لا يفترن، وفي أحضان الرذيلة غارقات، ولعادات غيرنا مقلدات... وهنا شبابكم خلف الشهوات يركضون، وفي طريق الحرام يتسابقون... ثم أنتم أنفسكم تدعون الله بنا، وتضرعون إليه بحبنا!! فأيَّ حب هذا الذي تزعمون؟؟!!

بالله عليكم، أستحلفكم ببارئكم، على من تضحكون؟ وفي أي بحر متلاطم أنتم غارقون؟!

أتظنون حبَّنا لكم مجيرا من النيران وأنتم على أبوابها عاكفون؟! أم تظنون أن أعيننا تنظر إليكم ونحن الذين عن أفعال أهل النيران بعيدون؟؟؟

ولدي بينكم لقي الله شهيدا، تزمَّل بدمائه وحيدا، قاتل دون شرع الله وناضل نضالا فريدا، مات ليُحيا فيكم الدين سديدا، لكنكم بفعالكم خذلتموه خذلانا شديدا... خنتم العهد الذي قطعتموه، صنتم طريق العهر الذي أعداؤكم لكم رسموه، جدتم علي بدمعة كذابة، ولوعة جذابة... ثم بحثت عنكم بعد تلك العبرات والدمعات فما لقيتكم، لكنني لقيت ولدي لا يزال بدمائه مضرجا، ورسول الله (ص) يلملم قطراتها، وذوارفُ دمعاته تلهب أرضكم، وتَنكُر سعيكم، وأنتم بعد في تيهكم تائهون...

ماذا أقول لكم يا من باسمي تغنيتم في أهازيجكم والأناشيد، ولسيرتي قرأتم باكين كأنْ قد نُحرتم من الوريد إلى الوريد، لن أقول إلا ما يُرضي الربَّ المجيدَ الفعَّال لما يريد، سأترككم، سأفارقكم، لن ألتفت إليكم، وها هو المهدي ابني يتأمل سعيكم، يسمع أصواتكم واستغاثاتكم، ينتظر أمر الله تعالى ليخرج بينكم مسدَّدا مؤيَّدا، فلا تظنوا أن ناصريه سيكونون لغير جده مقلِّدين، وفي رحاب الشقاوة غائبين... لا لا تظنوا أننا ننتظر عوننا من غير الله، فقائمنا بالله منصور، وبحبله موصول، للشر قاهر، وللكفر داحر... هيا اعملوا قبل أن لا تعملوا، ولا تخذلوه بسوء الفعال فتُخذلوا... 

وإذا كنتم محبين حقيقة فبأمرنا امتثلوا، ثم اعلموا أنا للعاملين بنهجنا أعوان ما دامت الأرض والسماء..."

لا أزال أسمعك سيدة النساء وحبيبة الشرفاء، ما انفكت الدماء تتأجج في عروقي، ما برح لهيبها يحرق فؤادي العاني... أصغي إليك فلا أرى نفسي أهلا للمودة الحق، والنعيم المطلق... أشمئز من ذاتي ثم أتذكر أنكم بأحبابكم المثابرين على ولائكم بقليل الأعمال وكثير الصدق مساندون...

فيا فاطمة النقاء، ويا فاطمة الولاء، يا نصيرة الضعفاء، ومحبة المساكين الشرفاء، إلينا فانظري ليرتفع عنا البلاء، فإنا وحق الله لكم محبون، وبأذيال بهاء محمَّدِيَّتِكم متعلقون، فجودا علينا بعض الجود، ورفقا بنا إذ تواترت السدود...

سيدتي لك مني كل تحية وولاء، فالسلام عليك يا بقية النبي وبضعة الرسول وزوجة الصفي النقي، يا أم كل مهدي، وسلوة قلب كل ولي، بحبك يرقى الراقون في معارج المقامات العظام، فأنت النور المكين، والعلاء الرصين، فالسلام عليك يا بضعة رسول رب العالمين يوم ولدت، ويوم انتقلت إلى جوار ربك، ويوم تبعثين في أبهى موكب، وأرفع مركب، إذ ينادي منادي الرحمن: أن "غضوا الطرف والأبصار يا أهل الموقف والانتظار، فكريمة محمد البتول تعبر الصراط"...

سلام الله على البتول، سلام الله على الطهر المصفى، سلام الله عليك يا زهراء يا سيدة النساء.

سلام الله عليكم من خويدم أنواركم وأبنائكم وأحبابكم... ألا فاقبليني، وبحبل الله تعالى فصليني، فأبوك جَدُّ كلِّ تقيّ، وأنت أمُّ أبيك النبيّ، وأولى بالمؤمن الخفيّ، ألا فاسترحمي لنا واستعطفي علينا كرامة للكريمين الأمجدين سيدي شباب الجنان الأسعدين، الإمامين الجليلين: أبي محمد الحسن وأبي عبد الله الحسين، عليهما مني السلام إلى يوم يبعث الله الخلائق والثقلين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق