"الصحوة الإسلامية المنتظرة" – "البركان المبارك" – "الخطاب الفصل" - مركز الأمة الواحدة
"الصحوة الإسلامية المنتظرة" – "البركان المبارك" – "الخطاب الفصل"

"الصحوة الإسلامية المنتظرة" – "البركان المبارك" – "الخطاب الفصل"

شارك المقال



        لم يكن عصر الثالث من حزيران[1] عاديّاً، إنه عصر يوم عاشوراء الذي تنادى فيه الآلاف والأنصار والأصحاب إلى سماع الخطاب الفصل من سماحة الإمام، واستلهام الموقف المناسب. وبدأوا يتوافدون إلى المدرسة الفيضيّة، المكان الذي شهد مذبحة طلاب العلوم الدينية، الرافضين التعديلات للائحة "مجالس الأقاليم والمدن" الهادفة إلى إبعاد القَسَمِ بالقرآن، وإسلاميّة المرشّحين وذكورتهم. بل إنه اليوم الذي تلا ذكرى أربعين الشهداء المنتفضين في ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصّادق(ع). إنّه اليوم الذي ألقي فيه الخطاب الفصل الذي يتوجّب عليه حسم الموقف بين سلطة قهرٍ متجذّرة في تربة إيران، وسلطة كلمة الله، المتمثلة برجال الدّين والأنصار والتابعين.

 

        قبل الخطاب، جلس الإمام يستقبل الجماهير الغفيرة التي ملأت المكان والساحات. بدا هادئاً جدّاً، كعادته في مواجهة الصّعاب، وقوراً وجديّاً وهو يحلّل الأمور، فالمسؤوليّة الملقاة على عاتقه عظيمة، والحدث يحتاج خبرته الطويلة، وصلابة عوده في الانتفاضة والمواجهة والتّصدي، في الرّفض وتحمّل النتائج. لأنه حدث مواجهة مع نظام متأصل في التبعية والإجرام والظلم وهضم حقوق الفقراء والمساكين.

 

        أجال في المكان طرفه، فأحسّ بغضب شديد ممزوج بحزنٍ وفرح كبيرين. وشرع يحدّث نفسه:

"هنا في هذه المدرسة "الفيضية" استبيحت دماؤنا، بل هنا في "قم" إليها نفي علماؤنا، وإلى هنا، إلى مركز الضوء يتسابق هؤلاء الأصحاب الخُلّصُ، والله إنّهم يشبهون أصحاب الإمام الحسين(ع). إنهم يتجمعون، يعصبون حول كلمة الحق، مثل فراشات تحوم حول نور، مثل نحل مسالم يمتصُّ رحيق النبوّة، وعسل الإمامة وعبير الإيمان والتقوى، إنهم رجال الله الذين تجدهم في كلِّ مواجهة بين الحق والباطل، تعرفهم من وجوههم الموسومة بالنور، من أقدامهم الثابتة في الأرض، من صلابة أعوادهم. هؤلاء الخُلّصُ سيزيلون هذا الطغيان، وسيمحون أثر الشيطان من أرض إيران بإذن الله."

 

راح يتفرس في البريق المرتسم على حدقات عيونهم المنتظرة خلاصاً، وفي أيديهم وأرجلهم حيث أثار الأصفاد بادية عليها، وفي صدورهم وجنوبهم... الله! إنه المشهد التوأم لكربلاء. اليوم يتوافد هؤلاء الشجعان غير عابئين بما ينتظرهم من اعتقال أو قتل، وأنا حسمت أمري، واتكلت على الله، سأتابع ما نهضت فيه منذ يفاعتي، حين حملت السلاح ضد الأشرار والإقطاعيين الظالمين، من أمثال "زلقي" و"رجب علي" وأنا لم أبلغ الثامنة عشرة من عمري، وكيف أصدرت كتابي "كشف الأسرار" والبيانات والمواقف الرافضة، وأعلنت الثورة السوداء مقابل إعلانهم الثورة البيضاء التي تبناها الشاه وزبانيته وداعموه من قوى استعماريّة عظمى في هذا العالم. وردعاً للظلم الذي فرضه الإقطاعيون وعملاء الحكومة، وفي وجه "منظمة المخابرات والأمن" "السافاك" وفجّرت المواقف ضدهم بالأمس، يوم أربعينيـّة الشهداء. توقف برهة ثم استدرك:

الله! ما هذا التوافق، فالإمام عليٍّ(ع) قال في خطبة الجهاد، "لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا قد ذرّفت على الستين". وأنا أذرّف هذا العام على الستين. إنه النهج القويم الذي سار عليه العديدون غيري من أمثال الشهيدين السّيدين، "حسن المدرس" و"مجتبى نواب صفوي"، وآية الله "كاشاني".

        أغمض عينيه قليلاً، فأبصر صُوَرَ رِجَالِ الدّين الذين نهضوا بأمر بعث الصحوة، فتم نفيُهم إلى هنا، الى "قم"، رأى صورة آية الله العظمى الشيخ "عبد الكريم الحائري"، وآية الله الحاج "أقانور الأصفهاني"، وصورة آية الله "البافقي" منفيّاً إلى مدينة "الرّيّ" بعد تعرضه للضرب، لأنه قال: "إن السّكوتَ اليوم يعني التضامن مع النظام المتجبّر" وآية الله "حسن المدرّس" منفيّاً الى "خواف" و"كاشمير".

هؤلاء العظام وغيرهم تصدّوا لمخطط "رضا خان" الرّامي الى القضاء على مظاهر الثقافة الإسلامية في المجتمع، كما تصدوا للأوامر التي أصدرها، والقاضيةِ بإلغاء مراسم العزاء والخطابة الدينية، ومنع تدريس المسائل الدينيّة والقرآن، وإقامة صلاة الجماعة في المدارس، وبالترويج، همساً، لنزع الحجاب وفرض السّفور على النساء الإيرانيات المسلمات.

 

        وسرعان ما قطع عليه حبل تداعياته وتأملاته شيخٌ دنا منه وقال:

عذراً سماحة الإمام،إأنى أحمل إليكم برقيةً من النجف الأشرف من آية الله السيد "الحكيم".

فتح السيد البرقية وقرأ فيها، الطلب الى العديد من العلماء والمراجع في إيران الهجرة الجماعية الى النجف حفاظاً على سلامتهم وإنقاذا لحياتهم.

 

"أحِفاظاً على حياتنا؟ ما هذا الطلب؟ لم لم يحافظ أئمتنا على حياتهم وحياة أبنائهم وأصحابهم؟ ألم يستشهد الإمام علي في المسجد؟ ألم يتجرع الإمام الحسن السم؟ ألم يُستشهد الإمام الحسين وأل بيته، وأصحابه من أجل إحقاق الحقّ؟"

 

راحت يراعته تخط برقية جوابيةً:  

باسم الله قاصم الجبارين وبعد،

"إننا سوف نؤدي تكليفنا الإلهي إن شاء لله، وسوف نُوَفَّقُ لإحدى الحُسْنَيَين: إما قطع أيدي الخونة عن الإسلام والقرآن، أو مجاورة رحمة الله جلّ وعلا. وإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما"

 

تقدم الشيخ ثانية وهمس في أذن الإمام: وفد رسمي ممثل لنظام الشاه يحمل برقية فيها تهديد بالقتل وبتهديم البيوت وبهتك الأعراض. مباشرة تراءت له مواكب السبايا وهي تغادر كربلاء، ومنظرُ الخيم المحروقة على أرض الطفّ، وأبصر مشهدية الجثث الملتحمة بثرى كربلاء، وسرعان ما أشاح بصره الى العلاء، أنه يرى رأس الحسين الشهيد عالياً على الرمح، رؤوس حامليه مطأطئه الى التراب.

 

وشنّفّ السّمع وشرع يردّد: "أبالموت تهددني يا ابن الطلقاء، إنّ القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة" وكأنه يسمعها من فم الإمام مباشرةً.

 

سرعان ما أومأ الى الشيخ قائلاً: لا أريد استقبال الوفد، وليفعلوا ما يطيب لهم. إن هذا التافه (الملك) يريدنا أن نبلع ألسنة الحق. أن نسكت على جوره وظلمه. والله العليّ القدير، هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق. ثم تابع: ألم أُعلِن الأمس في ذكرى أربعين شهداء طلبة العلم: إنّ محبة الملك تعني النّهب، ثم إني أضع هذا "التافه" أي (الملك) في قفص الاتهام، ألم أقل أنّ التّـقيّة حرام، وان إظهار الحقائق واجبٌ "ولو بلغَ ما بلغ" ما همّ، لقد أعدَدْتُ اليوم قلبي لتلقي طعنات حِرَابِ أزلامكم؛ ولكني غير مستعدٍ لقبول الظلم، ولن أرضى بالخضوع أمام تجبّر النظام"

 

تقدم الشيخ ثالثةً من الإمام وقال:

-         المظاهرات اندلعت في طهران، والمتظاهرون يحملون صوركم، إنهم يتجمعون أمام قصر "المرمر" حيث إقامة الملك، وهم يرددون لأول مرة: "الموت للديكتاتور"

-         الحمدلله، هذا ما يثلج قلبي، ويؤنس الروح، إنهم يشبهون أصحاب الإمام الحسين(ع)، في وقفتهم الشجاعة هذه، سيُسَجّل التاريخ ذلك...  

 

قبل الخطاب بقليل، شرع مقرئ القرآن يصدح بآيات الله، باسم الله الرحمن الرحيم.

 

-         أجل يا إلهى، أنت الملك القدوس العزيز، ومن غيرك؟ هؤلاء الطواغيت، تافهون مفسدون في الأرض.

قال المقرئ: "إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ" ...

ومن هو فرعون هذا الزمان يا سيّد؟

قال هامساً. ثم تابع: الله يقول: " اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى" أجل إن الله يدعونا لمقاتلة الطغاة... ثم هتف مستبشراً: إنها الصّحوة، أجل إنها الصّحوة الإسلامية التي بدأت تباشيرها في العام 1906 ميلادية مع الحركة الدستورية التي نادت بإزالة الفوارق الطبقية، وعملت على سيادة القانون والعدالة، والتي انقلب عليها "رضا خان"، كما انقلب ابنه على حكومة "مصدّق"...

سنُحَـقِّـقُ هذه الصّحوةَ ولو حبواً على الجمر، جمر الحقيقة، على النّار التي ستكون برداً وسلاماً على المؤمنين.

 

شرع السيد الإمام يخطب في الجماهير المحتشدة، ويعرض لهم المصائب التي ألحقتها العائلة "البَهْلَويَّه" بالبلاد، ثم كشف لهم العلاقات السرية القائمة بين الملك "التافه" و"إسرائيل"، ثم ذكَّـرَ بما قاله قبل اليوم بقليل، بأنه يُحَمِّلُ الملك شخصياً المسؤولية الكاملة عن الجرائم المرتكبة، وعن التحالف مع إسرائيل، ويحثُّ الجماهير على القيام. ثم انتقد بشدّةٍ سكوت العلماء في "قم" و"النجف" وسائر البلاد الإسلامية، إزاء جرائم الملك الأخيرة، قائلاً: "إنّ السّكوت اليوم يعني التضامن مع النظام المتجبر."

أمّا التّـقِـيّة، فإني أحرّمها في مثل هذه الظّروف.

 

"أما أنت أيها الملك، فإني أنصحك بأن تكف عن ممارساتك هذه، انهم يستغلونك، ولست أرغب أن يبادر الجميع للتعبير عن شكرهم لله في اليوم الذي تتنحى فيه عن السلطة، فإذا كانوا يلقنونك ما تقول، فإني أدعوك إلى أن تفكر قليلاً، واستمع لنصيحتي، فما هي العلاقة بين الملك وإسرائيل حتى تطالبنا مديرية الأمن بعدم التعرض لإسرائيل... فهل الملك إسرائيلي؟"

 

        صاحت الجماهير مكبرةً، وهي تعلن التزامها تلبية دعوة القائد بالهتافات التي ألهبت حناجرها، وبالقبضات الحسينية المرفوعة، موحّدةً بانتظام دقيق.

دنا الشيخ من جديد، وهتف في أذن الإمام: الشرطة والعسس، وجماعات السافاك يطوقون المكان.

 

أجابه ببرودة متناهية: أوتخشى في الحق لومة لائم؟  ألم يقل إمامنا شهيد المحراب عليٌّ(ع) يوماً: "لا تستوحشوا في طريق الحق". أجل، فنحن عشّاق شهادة وطلاب إصلاح.

أولسنا أحفاد ذلك الإمام الذي استلذ طلب الشهادة؟ لا تخافوا، نحن سندفع الكثير في هذا الطريق.

سيُلقى القبض علينا، سنُقـتـل في الشوارع، في البيوت وفي الطرقات، في المساجد والحسينيات.

لا همّ، سأنفى من بينكم، لا همّ، ستُعتقلون مع أبنائكم، لا همّ. ومن هنا، أبشّركم، إن دماءنا المغروسة في هذه الأرض، ستزهر غداً مع بشائر قدوم الربيع، ربيع الإسلام الحق، إنّه ربيع الصحوة الإسلامية الذي يسبق كل ربيع، إنه ربيع الحق الذي لا تقوى أي يد ظالمة على قطف وروده ورياحينه، أتعرفون لماذا؟ لأنه يغتذي على حب الإسلام، وأقوال الرسول، وأفعال الأئمة ونهج الصالحين.

قال ذلك، ثم أشرقت عيناه بدمعٍ شفيف، سأله الشيخ، ما بك يا سيّد قل؟

تبسّم وقال: "إني أرى والله جنائن الربيع الإسلامي تزدان في حدائق هذه الأرض، كما أرى على الدِّمَنِ تيجاناً ممرّغة بالذل، وملكاً يرحل عن أرض اغتصب حكمها، ويغصب منها ذرات تراب لم يكن يوماً وفيّاً لها، سنستعيدها بإذن الله. غداً، وعلى المطار، أبصر طائرةً عائدة من المنفى، تحمل رجلاً آمن بقوة كلمة الله على كسر القيد، وحول الطائرة أُبْصِرُ جموعاً غفيرة تحمل القرآن ونهج البلاغة، وسيرة الحسينِ وتحمل معها وروداً من جنائن الصحوة المحمدية، وأبصرُ بوارج وطائرات تعربد في سماء الخليج وبحره، ورايات للظلم ترتفع باسم الديموقراطية تُحرَقُ ثم تداس بالأقدام، أقدامكم أنتم. فلا تحزنوا وأنتم الأعلون. قوموا الى غرس ورودكم التي تنبتُ غداً بإذن الله، والتي ستضوع على المستضعفين في الأرض عبير حرية وتحرّرٍ واستقلال، فلا تغرّنكم كثرة عديدهم وعتادهم، فلقد علّمنا شهيد المحراب عليه السلام وهو يسلّم الراية لابنه محمد يوصيه:

        "تَزُولُ اَلْجِبَالُ ولاَ تَزُلْ عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ أَعِرِ اَللَّهَ جُمْجُمَتَكَ تِدْ فِي اَلْأَرْضِ قَدَمَكَ اِرْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى اَلْقَوْمِ وغُضَّ بَصَرَكَ وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلنَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ"

قال ذلك، ثم بدا هادئاً مثل بركانٍ فاض حناناً على أصحابه، كما فاض حزنا على شهداء الدرب الصعب، كما أثار عاصفةً من حمم في وجه الطغاة... أجل إنه بركان من عدلٍ وتقوى، لا يفتأ يتهجّد في الليالي الطِّوال وحسبه من راحته ساعتان من النوم يومياً، أما وقتُهُ، كل وقتِهِ فمخصص للعبادة وللإصلاح في أمة جده رسول الله(ص).

أجل، إنه روح الله الخميني الذي بَعَثَ في هذه الأمة التي غرقت طويلاً في سُبات عميق، واستكان أبناؤها لإرادة الملوك والحكام الظالمين، روحها من جديد، وشرع يردد قوله تعالى: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ".  صدق الله العليُّ العظيم

فالسلام على إمامنا العظيم، يوم ولد ويوم ارتقى الى ربه راضياً مرضياً ويوم يُنْشَر مع الصالحين المصلحين. والسلام عليكم ورحمة الله

 

                                                            قصة قصيرة بقلم الدكتورعلي محمود حجازي

                                                                                         بيروت في



[1]  حزيران العام 1963


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق