البنية الحجاجيّة المنطقيّة في خطاب السيد زينب" عليها السلام" - مركز الأمة الواحدة
البنية الحجاجيّة المنطقيّة في خطاب السيد زينب" عليها السلام"

البنية الحجاجيّة المنطقيّة في خطاب السيد زينب" عليها السلام"

شارك المقال


أولاً: فاتحة الدراسة

 تتأسّس البنيّة الحجاجيّة المنطقيّة على  استراتيجيّة لغويّة،  قوامها العقلانيّة الهادفة إلى إثبات الرأي الصحيح ودحض الإدعاءات وإقناع المتلقي ببطلان رأي أو إثبات صحته، وذلك  بالاستناد إلى آليات الاستدلال المنطقيّ،  ومنها الاستقراء والقياس  والتسلسل المنطقي ، ودقة الربط بين الأسباب والنتائج وإعطاء الدليل والتفسير وذكر الأحداث وإقامة الحجة بالدليل والبرهان، فيستعين المرسل في خلال توظيف هذه الاستراتيجية  بتقنيات لغويّة ونحويّة وبلاغيّة وأسلوبيّة  ووجدانيّة تكشف عن امتلاكه قدرات لغويّة وغير لغويّة.
تظهر عملية استقراء خطبة السيدة زينب في دمشق أنّها تتمايز ببنية حجاجيّة منطقيّة تؤكّد قدرات السيدة  اللغويّة وغير اللغويّة ، لأنّ هذه الخطبة جاءت نصًا  متماسكًا مشحونًا بالحقائق الدينيّة والتاريخيّة وبالقيم وبالدلالات والمؤثرات النفسيّة والدينيّة والأخلاقيّة، فجسّدت بنيتها الفنيّة الشكل الأمثل لتعاضد المستوى الفنيّ والمستوى الدينيّ والفكر المنطقيّ الهادف  إلى التأثير والترغيب والإقناع والاستمالة، فجاء كلامها عليها السلام منطوق ذات تتمايز بالثقافة وبالقدرة على التواصل وعلى الإبلاغ والتأثير.

مركز الامة الواحدة - ابحاث اسلامية - بقلم مها خيربك ناصر
أستاذة النحو المنطقي والألسنيّة العربيّة والنقد الحديث
أستاذة الدراسات العليا في الجامعة اللبنانيّة

يؤكّد الخطاب تمسّك العقيلة بمعايير الخطاب الدينيّ  وعمق ثقافتها التي ارتشفتها من ينابيع فكريّة فاضت خلقًا فنيًّا وأدبيًّا ودينيًّا، ويؤكّد، أيضًا، إدراكَها جوهر الدين وقيمه الأخلاقيّة والاجتماعيّة، ويكشف ،في الوقت عينه،  عن شجاعتها  وقدرتها على تحمّل المسؤوليّة في أكثر لحظات التاريخ ظلمًا واعتداء ونيلا من معاني الرسالة المحمدية، فلم يرهبها السبي والوقوف بين يدي من أساء إلى سبط الرسول، بل وقفت واثقة بنفسها لتنتج  خطابًا متسقًا، قوامه لغة متماسكة مترابطة، تنطق بقضية أساس هي  استشهاد الإمام الحسين " عليه السلام"، وبما تبعه من سبي، ستكون نتائجه وخيمة على الفاعلين، لأنّها كشفت من خلال ما صرّحت به حقيقة يزيد، وبيّنت السبب الرئيس الذي دفع به إلى  محاربة آل البيت، وأظهرت بطلان إسلامه  وإسلام قبيلته، فجاء  خطابها" عليها السلام"،  وثيقة تاريخية تقول الحقائق، وتدعو إلى الإسلام الصحيح، وتعلنها رمزًا للقيادة والقدوة والمثال الأعلى للقيم والشجاعة، والتجلي الأسمى  للتفكير العلميّ الحجاجيّ المنطقيّ  الذي انبنى عليه خطابها اللغويّ  المشحون بالدلالات  الدينيّة والقيميّة والإنسانيّة. 

     ثانيًا:تجليات البنيّة اللغويّة الحجاجيّة المنطقيّة في الخطبة

لقد كان استشهاد الإمام الحسين، وسبي نساء آل البيت، وسوء تصرّف يزد القضية الأساس التي انبنى عليها الخطاب، وعلى الرغم من عظيم الفاجعة وهول الواقع الذي وصلت إليه السبايا،  فإنّ العقيلة حافظت على توقّد فكرها وعلى التزامها بالأسس والمعايير الخطابيّة، فبدأت بحمد ربّ العالمين، وبالصلاة على سيد المرسلين، وبآية قرآنيّة تضمر الوعيد لمن كذّبوا بآيات الله واستهزأوا بها.
 تتضمّن هذه المقدمة الافتتاحيّة عددًا من الإشارات، منها تنبيه السامعين إلى أنّها حفيدة سيد المرسلين" صلّى الله عليه وسلّم"؛ ليعقل المتلقون فظاعة إساءة يزيد إلى نساء بيت النبوة، وليتنبّهوا إلى أنّ محاججتها له ستكون مرتكزة على آيات من القرآن الكريم؛ لتثبت تمسّكها بصدق ما أوحى به الله إلى نبيه المصطفى، وبجوهر الدعوة المحمديّة التي  كذّب بها  يزيد ورآها لعبة من بني هاشم" لعبت هاشم بالملك...."، لذلك رسمت  كلامه وتصرفاته صورة ناطقة بالحقد وبالرغبة في الانتقام لقبيلته، بعدما استرجع حقًا اغتُصب، وفق زعمه، فاختزلت هذه المقدمة التي لم تتجاوز السطرين مع الآية الكريمة عددًا من القضايا، ومن أهمها تثبيت الحق ودحض الباطل، وتكريس الثورة الحسينيّة فعلاً نهضويًا غايته كرامة الإنسان وحريته وخلاصه وثباته على قيم الإسلام ومبادئه الإنسانيّة.
انتقلت السيدة من المقدمة إلى مخاطبة يزيد باحتقار، وإلى تعظيم نفسها والسبايا، فاستخدمت في مخاطبته ضمير المخاطب المفرد الذي لا يُستخدم، وفق المتعارف عليه، لمن يُعتقد أنّهم من ذوي الشأن، وكان هذا الخطاب والمقارنة أوّل شكل من أشكال ازدراء يزيد وتحقيره، وعدم المبالاة بنشوة نصر آني مزيف، قوامه الظن وليس اليقين، فخاطبته" عليها السلام"  بما تراه وتعقله وتدركه من حقيقة انتصاره: "أظننت يا يزيد؟؟؟" 

لم يكن سؤالها يحتاج إلى جواب، بل هو سؤال تقريريّ، غايته تثبيت كذب يزيد وضعفه وعجزه ، وكذلك رفضها الاعتراف بانتصاره، وبسلطته،  وبعظيم خطره وجلالة قدرته، فخاطبته بمصدر يفيد دلالة الأمر والتأكيد" فمهلاً مهلاً" وذكّرته بأنّ الله  يملي للكافرين ليزدادوا إثمًا، وينالوا ما يستحقون من العذاب المهين، فأضمر كلامها الثقة بالنفس وعدم الاكتراث، واحتقارًا وتأكيد كفره، لتنتقل" عليها السلام" من العرض والتوصيف إلى التوبيخ وتعرية يزيد وتبيان سوء فعلته من خلال إقامة موازنة منطقيّة بين  حرائر بني أميّة  وبنات رسول الله، فأماطت اللثام عن جهله وظلمه وسوء فعلته بسؤال تقريري" أمن العدل...؟" في وقت لا تنتظر منه عدلاً لأنّ أصوله وتاريخه يؤكّدان محاربته الدعوة المحمديّة، لذلك إنّ ما فعله في نساء آل البيت  يكشف عتوه وجحوده ، ودفعًا لما جاء به الرسول من عند الله، فتصل إلى نتيجة منطقيّة تقول إنّ من كانت أصوله تعادي وتحارب رسول الله،  وبدت أفعاله بعيدة عن جوهر الدين الإسلاميّ، فإنّ ما قام به  يتناسب وحقيقته، إذًا، لا علاقة لسلطانه  بمفاهيم الإسلام وجوهره وقيمه، فهو،  بهذا المعطى، مغتصب حقًّا ليس له، وظالم وكافر وقاتل ومعتد وجاهلي التفكير.

تحاول العقيلة من خلال الربط المنطقي أن تركّز على أصول يزيد وعلى انتسابه إلى مجموعة تمسكّت  بعبادة الأوثان وحاربت أهل البيت، فذكّرت الحاضرين  بهند التي حاولت أن تأكل قلب حمزة ، وأشارت إلى شدة عداء بني أميّة وتمسكهم بالكفر والطغيان ومحاربتهم رسول الله، لتخلص إلى استنتاج منطقيّ يقول إنّ ما يقوم به يزيد ما هو إلاّ استمرار لما قام به أجداده  الذين سيسرون بانتصاراته وانتقامه من بني هاشم" وفق زعمه"، وفي هذا الكلام تنقض أحقيقة جلوس يزيد على رأس الحكم ،وتحرّض المتلقين على من يحاول القضاء على جوهر الدين الحنيف الذي يحكم باسمه، والاسلام بريء منه ومن تصرفاته التي أساءت إلى الرسول باستشهاد حفيده، والعبث  برأسه " عليه السلام"، وسبي نساء أهل بيته، فكان هذا الكلام معبرًا إلى التركيز على القضية الأساس وهي قضية استشهاد الحسين. 
جاء كلامها على استشهاد الحسين بعد سرد منطقي قائم على ربط الأحداث وتوصيف الوقائع، لتوقظ ضمائر المتلقين، وتملأ قلوب المسلمين المؤمنين حقدًا على يزيد وأهله الذين كشفت عن حقيقة إسلامهم، وأقامت معادلة منطقيّة بينهم وبين منزلة الحسين عند الرسول الذي كان  يقول" الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، فكانت نتيجة المعادلة تثبيت نتائج المقارنة بين سعادة يزيد الآن وتعاسته يوم يصير إلى سخط الله فيحاسب على ما فعل بأهل بيت رسول الله، فكان المسكوت عنه تنبيه المتلقين إلى نتائج مماثلة إذا لم يبادروا إلى نصرة الحقّ وأهله.

استندت السيدة زينب إلى المعطيات التي كشفت عن حقيقة يزيد وعن موقفه المعادي رسول الله،  لتصل إلى التهديد والتخويف والوعيد،  وإلى رفع الدعاء الى الله لينتقم من يزيد وممن تسببوا في سبيهن ، وهذا الإيمان المطلق شجّعها على استصغاره واحتقاره وتحقير كلّ من  كانت قلوبهم  محشوة بسخط الله ولعنة رسوله بعد أن عشعش فيها الشيطان، ثم تختم بعدم مبالاتها بكيده وبطشه فكان المسكوت عنه تذكير الظالمين بغضب الله، وتنبيههم إلى سوء أفعال يزيد، وتأكيد انتصار الخير بانتصار فكرة الملحمة الكربلائية على من سعوا إلى اغتصاب الحكم والانتقام من بني هاشم. 

قدّمت العالمة المُعلِّمة لقضيتها بكلام موضوعي تقريريّ يعبّر عن أفكارها بالسرد وتقديم الوقائع وتوصيفها،  فربطت أحداث الحاضر بالماضي، وكرّرت في سياقات خطبتها ما يذكّر بكفر يزيد وأهله، لتثبّت في نفوس المتلقين سوء فعلته، وتقنعهم بغضب الله عليه، وتؤكّد لهم عاقبته الوخيمة، لذلك استعانت" عليها السلام"  بالأدلة  الواقعيّة والمنطقيّة، وبالشواهد التاريخيّة، واستندت إلى آيات قرآنيّة  تكشف صدق فرضيتها، وكذب من أساؤوا إلى نساء آل البيت.

وظّفت السيدة زينب "عليها السلام " في تماسك بنية الخطاب الحجاجيّة أساليب  الطلب والاستفهام والنهي والنفي والدعاء والقسم والشرط وأدوات الربط من حروف عطف وجرّ وتأكيد  وأسماء موصولة  وغير ذلك من أساليب الكلام الهادفة إلى الإقناع بلغة، قوامها الحجة والغنى اللفظي والنحويّ والدلاليّ، فجاءت السياقات مموسقة بإيقاع لفظيّ ووجدانيّ ،له تأثير فعّال في فكر المتلقيّ ووجدانه، ومن هذه التراكيب المترابطة المموسقة:"أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك، وسوقك بنات رسول الله سبايا.." و"ثمّ كد كيدك، واجهد جهدك! ..."و" ونسأله أن يكمل لهم الأجر، ويجزل لهم الثواب، ونسأله حُسن الخلافة وجميل الإبانة" وووظفت، أيضًا، في خاتمة خطبتها عبارة، فيها الكثير من الدلالات" إنّه رحيم ودود".

تؤكّد عملية استقراء الخطبة أنّها تتضمّن قضايا دينيّة  وسياسيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة، وأنّها    تأسست على التماسك والتتابع والتسلسل، فجاءت كلّ فقرة تمّهد لما بعدها وترتبط بما قبلها، وتؤكّد، أيضًا، أنّها بنيت على أسس معجميّة ونحويّة وبلاغيّة ومنطقيّة ودلاليّة وحجاجيّة وبرهانيّة، وعلى المقابلة والمجادلة والموازنة  بالاستناد إلى الوقائع والأحداث وعلى ما جاء في كتاب الله من وعد للشهداء ووعيد للكفّار. 

إذا كانت خطبتها عليه السلام لم تترك أثرًا في نفوس صُمّت ضمائرها، فإنّ خطبتها  ما تزال فاعلة في ضمائر الأحرار، لأنّها استطاعت بجرأتها وفصاحتها  وعلمها ومعرفتها وثقافتها وطهرها وعصمتها أن تثبت  صدق الدعوة، وسوء أفعال يزيد ، وحقده، وبطلان سلطانه، فكانت مرتكزًا من مرتكزات النهضة الحسينيّة التي كرّست مفاهيم الثورة الكربلائيّة حقًّا وطريق حياة.  

تؤكّد البنية الحجاجيّة المنطقيّة لخطاب السيدة زينب أنّها عالمة مُعلّمة تمتلك فنون الأداء الخطابيّ، ومقومّات الفكر المنطقي الحجاجيّ الذي خصّها به الله،  واقتبست توظيف آلياتها من مدرسة جدها وأبيها وأمها وأخويها" عليهم السلام"، فاستطاعت بتوقدها الذهنيّ  وبعقلانيتها وإيمانها وثقافتها أن توظّف معارفها اللغويّة وغير اللغويّة في تحقير فعلة يزيد وفي تصغير أمره  وازدراء سلطته وسلطانه وعدم الاكتراث بنصره المزيف.

تعكس خطبتها" عليها السلام" شجاعتها وانتسابها إلى بيت النبوة الذي أهّلها لتؤدي الدور القيادي البطوليّ  لتبقى عقيلة بني هاشم قدوة للإنسان القابض على جمر إيمانه، سواء أكان ذلك في الأقوال أم الأفعال.

ثالثًا: نقطة على السطر 
تشكّل خطبة السيدة زينب النموذج الأمثل للخطاب الحجاجيّ المنطقيّ، لكونه نصًا مؤسسًا على الانسجام والتتابع والتماسك، ومشحونًا بالدلالات وبالقيم وبالمؤثرات النفسيّة والدينيّة والأخلاقيّة، فجسّدت بنيتها الفنيّة الشكل الأمثل لتعاضد المستوى الفنيّ والمستوى الدينيّ والفكر المنطقيّ، وستبقى هذه الخطبة منارة في نفوس أحرار العالم المطالبين بالحق والساعين إلى تكريس مسيرة آل البيت نظام حياة وكينونة وجود، وستبقى" عليها السلام"النموذج الكامل للمرأة المُطهَّرة المُحدِّثة العليمة العالمة العظيمة، والصورة الحقيقيّة لجوهر الدين ومعنى الفضيلة.   

لقد تأسّست بنيّة خطابها" عليها السلام" على  استراتيجيّة  لغويّة، قوامها العقلانيّة، فاستطاعت بما تمتلكه من منطق عقليّ ومن ثقافة ومعارف وعلوم دينيّة وغير دينيّة ومن شخصيّة متمايزة أن  تدحض إدعاءات يزيد، وأن تثبت صدق كلامها وفاعليّة منطقها وقوة حجتها وصدق معطياتها، وذلك من خلال توظيف آليات الاستدلال المنطقيّ القائم على الاستقراء والقياس  والتسلسل المنطقي ، ودقة الربط بين الأسباب والنتائج وإعطاء الدليل والتفسير وذكر الأحداث وإقامة الحجة بالدليل والبرهان، فكان معينها في سبك النصّ وتماسك وحداته تقنيات لغويّة ونحويّة وبلاغيّة وأسلوبيّة  ووجدانيّة .

  استنادًا إلى كلّ ما تقدّم يمكن تأكيد دور السيدة العظيمة الطاهرة المعصومة المثقَّفَة والمثقِّفة في النهضة الكربلائية، فكانت، ولمّا تزل، من المؤسسين  لمدرسة ما زالت  تعلّم الأجيال معنى الانتماء والصبر والإيمان والثبات والدفاع عن الحقّ وأهله، وترسم لهم درب الثورة  الحقيقيّة على الفساد والظلم، فتستعيد هذه الثورة الفكر الحسينيّ المنطقيّ، و نبض الفعل الثوريّ في كل يوم كربلائيّ سيبقى ناطقًا بعظيم مقولة سيد الشهداء: إذا كان دين محمد لن يستقيم إلاّ بقتلي فيا سيوف خذيني"، وهو العالم أنّ الله شاء أن يراه قتيلا . 





 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق